لا يوجد اتصال بالانترنت !
ستتم اعادة المحاولة بعد 10 ثواني ...
جاري التحميل ...
وإنّكم حين تطلعون على هذه النماذج الواقعية من الأُمم السابقة، فاعتبروا بها ولا تنهجوا طريق أُولئك الغافلين الظالمين من الكافرين بأنعم اللّه (فكلوا ممّا رزقكم اللّه حلالا طيباً واشكروا نعمة اللّه إِنْ كنتم إِيّاه تعبدون). بحوث 1 - أهو مثالٌ أمْ حدثٌ تاريخي؟ لقد عبّرت الآيات أعلاه عند حديثها عن تلك المنطقة العامرّة بكثرة النعم، والتي أصاب أهلها بلاء الجوع والخوف نتيجة كفرهم بأنعم اللّه، عبّرت عن ذلك بكلمة "مثلا" وبذات الوقت فإِنّ الآية استخدمت الأفعال بصيغة الماضي، ممّا يشير إِلى وقوع ما حدث فعلا في زمن ماض، وهنا حصل اختلاف بين المفسّرين في الهدف من البيان القرآني، فقسمٌ قد احتمل أنّ الهدف هو ضرب مثال عام، وذهب القسم الثّاني إِلى أنّه لبيان واقعة تأريخية معيّنة. وتطرّق مؤيدو الإِحتمال الثّاني إِلى تحديد المنطقة التي حدثت فيها هذه الواقعة. فذهب بعضهم أنّها أرض مكّة، ولعل (يأتيها رزقها رغداً من كل مكان)تدعو إِلى تقوية هذا الإِحتمال، لأنّه دليل على أنّ هذه المنطقة مجدبة، وما تحتاج إِليه يأتيها من خارجها، وما جاء في الآية (57) من سورة القصص (يجبى إِليه ثمرات كل شيء) يعضد هذا المعنى، خصوصاً وأنّ المفسّرين قد قطعوا بأنّها إِشارة إِلى مكّة المكرمة. ويُردّ هذا الزعم بعدم معرفة حادثة كهذه في تأريخ مكّة على ما للحادثة من وضوح، فغير معروف عن مكّة أنّها عاشت أيّاماً رغيدة ومن ثمّ جاءها القحط والجوع!! وقال بعض آخر: حدثت هذه القصّة لجمع من بني إِسرائيل في منطقة ما، وأنّهم أُبتلوا بالقحط والخوف على أثر كفرانهم بنعم اللّه. وما يؤيد ذلك ما روي عن الإِمام الصادق(عليه السلام) أنّه قال: "إِنّ قوماً في بني إِسرائيل تؤتى لهم من طعامهم حتى جعلوا منه تماثيل بمدن كانت في بلادهم يستنجون بها فلم يزل اللّه بهم حتى اضطرّوا إِلى التماثيل يبيعونها ويأكلونها وهو قول اللّه" (ضرب اللّه مثلا...)(1). ورويت روايات أُخرى قريبة من هذا المضمون عن الإِمام الصادق(عليه السلام)وتفسير علي بن إِبراهيم ممّا لا يمكن الإِعتماد الكامل على أسانيدها، وإِلاّ لكانت المسألة واضحة(2). وثمّة احتمال آخر وهو أنّ الآية تشير إِلى قوم "سبأ" الذين عاشوا في اليمن، وقد ذكر القرآن الكريم قصتهم في الآيات (15 - 19) من سورة سبأ، وكيف أنّهم كانوا يعيشون على أرض ملؤها الثمار والخيرات في أمن وسلام، حتى أصابهم الغرور والطغيان والإِستكبار وكفران النعم الإِلهية، فأهلكهم اللّه وشتّت جمعهم وجعلهم عبرة للآخرين. وجملة (يأتيها رزقها رغداً من كل مكان) ليست دليلا قاطعاً على أنّها لم تكن عامرّة بذاتها، لأنّه من الممكن أنْ يقصد ب- "كل مكان" أطرافها وضواحيها، وكما هو معروف فإِنّ المحاصيل الزراعية لإِقليم كبير تنتقل إِلى المدينة أو القرية المركزية في تلك المنطقة. وينبغي التذكير مرّة أُخرى بعدم وجود المانع من شمولية إِشارة الآية إِلى كل ما ذكر من احتمالات. وعلى أيّةِ حال، فليس ثمّة مشكلة مهمّة في تفسير هذه الآية وذلك لكثرة المناطق التي أصابها مثل هذه العاقبة عبر التاريخ. وإِذا كان عدم الإِطمئنان الكافي في تعيين محل المنطقة قد دفع بعض المفسّرين إِلى اعتبار الموضوع مثالا عامّاً مجرّداً وليس منطقة معينة، فظاهر الآيات مورد البحث لا يناسب ذلك التّفسير، بل يشير إِلى وجود منطقة معينة وحادثة تأريخية. 2 - الرابطة ما بين الأمن والرّزق الكثير ذكرت الآيات ثلاث خصائص لهذه المنطقة العامرّة المباركة: الخاصية الأُولى: الأمن. الخاصية الثّانية: الإِطمئنان في إِدامة الحياة. الخاصية الثّالثة: جلب الأرزاق والمواد الغذائية الكثيرة إِليها. وترتبط هذه الخواص فيما بينها ترابطاً علّياً وحسب تسلسلها، فكل خاصية ترتبط بما قبلها ارتباط علة ومعلول، فلو فُقِدَ الأمن لما اطمأن الإِنسان على إِدامة حياته في مكانه المعيّن، وإِذا فقد الإِثنان فلا رغبة حقيقية لأحد على الإِنتاج وتحسين الوضع الإِقتصادي هناك. فالآية تقدم درساً عملياً لمن يرغب في بلاد عامرّة وحرّة ومستقلة، فقبل كل شيء لابدّ من توفير حالة الأمن، ومن ثمّ بعث الإِطمئنان في قلوب الناس بخصوص مستقبل وجودهم في تلك المنطقة، ومن بعد ذلك يأتي دور تحريك عجلة الإِقتصاد. فبهذه النعم المادية الثلاثة تصل المجتمعات إِلى درجة تكامل حياتها المادية فقط، ووصولا للحياة المتكاملة من كافة الجوانب (مادياً ومعنوياً) تحتاج المجتمعات إِلى نعمة الإِيمان والتوحيد، ولهذا فقد جاء بعد ذكر هذه النعم: (ولقد جاءهم رسول منهم). 3 - لباس الجوع والخوف ذكرت الآيات في بيان عاقبة الكافرين بنعم اللّه، قائلةً: (فأذاقها اللّه لباس الجوع والخوف) فمن جهة: شبّهت الجوع والخوف باللباس، ومن جهة أُخرى: عبّرت ب- "أذاقها" بدلا من (ألبسها). وحمل هذا التفاوت في التعبير المفسّرين إِلى التوقف والتأمل في الآية... فالتعبير يحمل بين طياته إِشارة لطيفة، فمثلا: قال ابن الراوندي لابن الأعرابي الأديب: هل يذاق اللباس؟ قال ابن الأعرابي: لا بأس ولا لباس يا أيُّها النسناس، هب أنّك تشكّ أنّ محمّداً ما كان نبيّاً أمّا كان عربياً!!!!(3). وعلى أيّةِ حال، فالتعبير إِشارة إِلى أن القحط والخوف كانا من الشدة وكأنّهما لباس قد أحاط بأبدانهم من كل الجهات، وأبدانهم في تماس معه، ومن جهة أُخرى فقد وصلت حالة لمسهم للخوف والقحط كأنّهم يتذوقونه بألسنتهم. وهو تعبير عن أشدّ حالات الخوف ومنتهى حالات الفقر والذي يمكن أنّ يصيب جميع وجود الإِنسان. فكما أنّ نعمة الأمن والرفاه قد غطّت كامل وجودهم في البداية، فها هم وقد حال بهم الأمر لأنْ يحل الفقر والخوف محلّها في آخر مطافهم نتيجة لكفرانهم بنعم اللّه سبحانه. 4 - أثر كفران النعمة في تضييع المواهب الإِلهية رأينا في الرّواية المتقدمة كيف راح أُولئك المرفهون بتطهير أجسادهم بواسطة المواد الغذائية بعد أنْ تسلطت عليهم الغفلة وساورهم الغرور، حتى ابتلاهم اللّه بالقحط والخوف. وعرض الحادثة ما هو إِلاّ تنبيه للناس ولكل الأمم الغارقة بالنعم الإِلهية، على أنّ الإِسراف والتبذير وتضييع النعم لا ينجو من عقوبة وغرامة ثقيلة الوقع. وهو تنبيه أيضاً للذين يرمون نصف غذائهم (الزائد عن الحاجة) في أكياس الأوساخ دائماً. وهو تنبيه كذلك لأُولئك الذين يهيئون غذاءً يكفي لعشرين شخصاً، وليس لهم من الضيوف إِلاّ أربعة، ولا يصل الزائد منه إِلى بطون الجياع من الناس. وهو تنبيه للذين يجمعون المواد الغذائية في بيوتهم لاستعمالهم الخاص، ويملؤون مخازنهم انتظاراً لارتفاع سعرها في الأسواق حتى يفسد ويذهب هباءً من غير أنْ يستفيدوا من بيعها بسعر مناسب قبل فسادها. نعم، فلا يخلو أيّ عمل ممّا ذكر من عقوبة إِلهية، وأقل ما يعاقبون به هو سلب تلك النعم عنهم. وتتّضح أهمية المسألة إِذا علمنا أنّ المواد الغذائية على سطح الكرة الأرضية محددة بنسبة، فأيُّ إِفراط في أيِّ نوع من المواد يؤدي إِلى حرمان نسبة من البشر من تلك المواد. ولذلك جاء التأكيد الشديد حول هذه المسألة في الأحاديث الشريفة، حتى روي عن الإِمام الصادق(عليه السلام) قوله: "كان أبي يكره أن يمسح يده في المنديل وفيه شيء من الطعام تعظيماً له، إِلاّ أنْ يمصها، أو يكون إِلى جانبه صبي فيمصها، قال: فإِنّي أجد اليسير يقع من الخوان فأتفقده فيضحك الخادم، ثمّ قال: إِنّ أهل قرية ممن كان قبلكم كان اللّه قد وسّع عليهم حتى طغوا، فقال بعضهم لبعض: لو عمدنا إِلى شيء من هذا النقي فجعلناه نستنجي به كان ألين علينا من الحجارة، قال عليه السلام: فلما فعلوا ذلك بعث اللّه على أرضهم دواباً أصغر من الجراد فلم تدع لهم شيئاً خلقه اللّه إِلاّ أكلته من شجر أو غيره، فبلغ بهم الجهد إِلى أنّ أقبلوا على الذي كانوا يستنجون به، فأكلوه، وهي القرية التي قال اللّه تعالى: (ضرب اللّه مثلا قرية كانت آمنة مطمئنة) إِلى قوله: (بما كانوا يصنعون)(4) ﴿فَكُلُواْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللّهُ﴾ من الغنائم وغيرها ﴿حَلالاً طَيِّبًا﴾ لذيذا ﴿وَاشْكُرُواْ نِعْمَتَ اللّهِ إِن كُنتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ﴾.