التّفسير
عشرة قواعد أخلاقية ... سلاحٌ داعية الحق:
حملت آيات السورة بين طياتها أحاديث كثيرة ومتنوعة، فقد تناولت المشركين واليهود وأصناف المخالفين بشكل عام، تارة بلهجة لينة وأُخرى بأُسلوب تقريع شدة، وخصوصاً الآيات السابقة لما لها من عمق وشدة أكثر ممّا سبقها من الآيات المباركات.
أمّا الآيات أعلاه والتي تمثل خاتمة بحوث وأحاديث سورة النحل، فتبيّن أهم الأوامر الأخلاقية الأساسية التي ينبغي التحصن بها عند مواجهة المخالفين على أساس منطقي، كما وتبيّن كيفية العقاب والعفو وأُسلوب الصمود أمام مؤامرتهم وما شابه ذلك.
ويمكن تسمية ذلك بالأصول التكتيكية ومنهج المواجهة في الإِسلام ضد المخالفين، كما وينبغي العمل به كقانون كلي شامل لكل زمان ومكان.
ويتلخص هذا البرنامج الرّباني بعشرة أُصول، تم ترتيبها وفقاً لتسلسل الآيات مورد البحث
1 - (أُدعُ إِلى سبيل ربّك بالحكمة):
"الحكمة": بمعنى العلم والمنطق والإِستدلال، وهي في الأصل بمعنى (المنع) وقد أُطلقت على العلم والمنطق والإِستدلال لقدرتها على منع الإِنسان من الفساد والإِنحراف... فأوّل خطوة على طريق الدعوة إِلى الحقّ هي التمكن من الإِستدلال وفق المنطق السليم، أو النفوذ إِلى داخل فكر الناس ومحاولة تحريك وإِيقاظ عقولهم، كخطوة أُولى في هذا الطريق.
2 - (والموعظة الحسنة):
وهى الخطوة الثّانية في طريق الدعوة إِلى اللّه، بالإِستفادة من عملية تحريك الوجدان الإِنساني، وذلك لما للموعظة الحسنة من أثر دقيق وفاعل على عاطفة الإِنسان وأحاسيسه، وتوجيه مختلف طبقات الناس نحو الحقّ.
وفي الحقيقة فإِنّ "الحكمة" تستثمر البُعد العقلي للإِنسان، و"الموعظة الحسنة" تتعامل مع البُعد العاطفي له(1).
إِنّ تقييد "الموعظة" بقيد "الحسنة" لعلّه إِشارة إِلى أنّ النصيحة والموعظة إِنّما تؤدي فعلها على الطرف المقابل إذا خليت من أيّةِ خشونة أو استعلاء وتحقير التي تثير فيه حسّ العناد واللجاجة وما شابه ذلك.
فكم من موعظة أعطت عكس ما كان يُؤَمَّل بها بسبب أُسلوب طرحها الذي يُشْعِر الطرف المقابل بالحقارة والإِهانة كأن تكون الموعظة امام الآخرين ومقرونة بالتحقير، أو يستشمّ منها رائحة الاستعلاء في الواعظ، فتأخذ الطرف المقابل العزة بالإِثم ولا يتجاوب مع تلك الموعظة.
وهكذا يترتب الأثر الإِيجابي العميق للموعظة إِذا كانت "حسنة".
3 - (وجادلهم بالتي هي أحسن).
الخطوة الثّالثة تختص بتخلية أذهان الطرف المخالف من الشبهات العالقة فيه والأفكار المغلوطة ليكون مستعداً لتلقي الحق عند المناظرة.
وبديهي أنْ تكون المجادلة والمناظرة ذات جدوى إِذا كانت (بالتي هي أحسن) ، أيْ أنْ يحكمها الحق والعدل والصحة والأمانةوالصدق، وتكون خالية من أيّةِ إِهانة أو تحقير أو تكبر أو مغالطة، وبعبارة شاملة: أنْ تحافظ على كل الأبعاد الأِنسانية السليمة عند المناظرة.
وفي ذيل الآية الأُولى، يقول القرآن: (إِنّ ربّك هو أعلم بِمَنْ ضلّ عن سبيله وهو أعلم بالمهتدين).
فالآية تشير إِلى أنّ وظيفتكم هي الدعوة إِلى طريق الحق بالطرق الثلاثة المتقدمة، أمّا مسألة مَنْ الذي سيهتدي ومَنْ سيبقى على ضلاله، فعلم ذلك عند اللّه وحده سبحانه.
وثمة إِحتمال آخر في مقصود هذه الجملة وهو بيان دليل للتوجيهات الثلاث المتقدمة، أيْ: إِنّما أمر سبحانه بهذه الأوامر الثلاثة لأنّه يعلم الكيفية التي تؤثر بالضالين لأجل توجيههم وهدايتهم.
﴿ادْعُ﴾ الثقلين ﴿إِلِى سَبِيلِ رَبِّكَ﴾ دينه ﴿بِالْحِكْمَةِ﴾ بالحجج الكاشفة عنه ﴿وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ﴾ الأقوال المقبولة المقنعة في الترغيب والترهيب ﴿وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ﴾ طرق المناظرة كالرفق واللين في النصح ﴿إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ﴾ فهو مجازيهم.