لا يوجد اتصال بالانترنت !
ستتم اعادة المحاولة بعد 10 ثواني ...
جاري التحميل ...
(عسى ربّكم أن يرحمكم). (وإِنّ عدتم عدنا) أي إِن عدتم لنا بالتوبة فسوف نعود عليكم بالرحمة، وإِن عدتم للإِفساد عدنا عليكم بالعقوبة. وإِذا كان هذا جزاؤكم في الدنيا ففي الآخرة مصيركم جهنم: (وجعلنا جهنَّم للكافرين حصيراً)(5). ملاحظات الأُولى: الإِفسادان التأريخيان لبني إِسرائيل: تحدثت الآيات أعلاه عن فسادَين إجتماعيين كبيرين لبني إِسرائيل، يقود كل مِنهما إِلى الطغيان والعلو، وقد لاحظنا أنَّ اللّه سلَّط على بني إِسرائيل عقب كل فساد رجال أشدّاء شُجعاناً يذيقونهم جزاء فسادهم وعلوهم وطغيانهم، هذا مع استثناء الجزاء الأخروي الذي أعدَّه اللّه لهم. وبالرغم من اتساع تاريخ بني إِسرائيل، وتنوّع الأحداث والمواقف فيه، إِلاّ أنَّ المفسّرين يختلفون في كل المرّات التي يتحدّث القرآن فيها عن حدث أو موقف مِن تاريخ بني إِسرائيل وعلى سبيل التدليل على هذه الحقيقة تتعرّض فيما يلي للنماذج الآتية: أوّلاً: يستفاد من تاريخ بني إِسرائيل بأنَّ أول من هجم على بيت المقدس وخرّبه هو ملك بابل "نبوخذ نصر" حيث بقي الخراب ضارباً فيه لسبعين عاماً، إِلى أن نهض اليهود بعد ذلك لإِعماره وبنائه. أمّا الهجوم الثّاني الذي تعرّض له، فقد كانَ مِن قبل قيصر الروم "أسييانوس" الذي أمر وزيره "طرطوز" بتخريب بيت المقدس وقتل بني إِسرائيل. وقد تمَّ ذلك في حدود مائة سنة قبل الميلاد. وبذلك يحتمل أن تكون الحادثتان اللتان أشارت إِليهما الآيات أعلاه هما نفس حادثتي "نبوخذ نصر" و"أسييانوس" لأنَّ الأحداث الأُخرى في تاريخ بني إِسرائيل لم تفن جمعهم، ولم تذهب بملكهم وإِستقلالهم بالمرّة، ولكن نازلة (نبوخذ نصر) ذهبت بجمعهم وسؤددهم إِلى زمن "كورش" حيث اجتمع شملهم مجدداً وحررهم مِن أسر بابل وأعادهم إِلى بلادهم وأعانهم في تعمير بيت المقدس، إِلى أن غلبتهم الروم وظهرت عليهم، وذهبت قوتهم وشوكتهم(6). لقد استمر بنوإِسرائيل في مرحلة الشتات والتشرُّد إِلى أن أعانتهم القوى الدولية الإِستعمارية المعاصرة في بناء كيان سياسي لهم مِن جديد. ثانياً: أمّا "الطبري" فينقل في تفسيره عن رسول اللّه(صلى الله عليه وآله وسلم) أنَّ المراد في الفساد الأوّل هو قتل بني إِسرائيل لزكريا(عليه السلام) ومجموعة أُخرى مِن الأنبياء(عليهم السلام)، وأنَّ المقصود مِن الوعد الأول، هو الإِنتقام الإِلهي مِن بني إِسرائيل بواسطة (نبوخذ نصر) وأمّا المراد مِن الفساد الثّاني فهو الفوضى والإِضطراب الذي قامَ به "بنوإِسرائيل" بعد تحريرهم مِن بابلَ بمساعدة أحد ملوك فارس، وما قاموا به من فساد. أمّا الوعد الثّاني، فهو هجوم "أنطياخوس" ملك الروم عليهم. وبالرغم مِن انطباق بعض جوانب هذا التّفسير مع التّفسير الأوّل، إِلاّ أنَّ راوي الحديث الذي يعتمد عليه "الطبري" غير ثقة، بالإِضافة إِلى عدم تطابق تاريخ "زكريا" و"يحيى" مع تاريخ "نبوخذ نصر" و"أسييانوس أو أنطياخوس" إِذا يلاحظ أن "نبوخذ نصر" عاصر "أرميا" أو "دانيال" النّبي كما يرى بعض المؤرخين، وقيامه قد تمَّ في حدود (600) سنة قبل زمان يحيى(عليه السلام)، لذلك كيف يقال: إِنَّ قيام نبوخذ نصر كان للإِنتقام مِن دمِ يحيى(عليه السلام)؟!! ثالثاً: وقال آخرون: إِنَّ بيت المقدس شيِّد في زمن داود وسليمان(عليهما السلام)، وقد هدمه "نبوخذ نصر" وهذا هو المقصود من إِشارة القرآن إِلى الوعد الأوّل. أمّا المرّة الثّانية، فقد بُني فيها بيت المقدس على عهد ملوك الأخمنيين ليقوم بعد ذلك "طيطوس" الرومي بهدمه وخرابه (الملاحظ أن "طيطوس" يطابق "طرطوز" الذي ذكر في التّفسير السابق) وقد بقي على خرابه إِلى عصر الخليفة الثّاني عندما فتح المسلمون فلسطين(7). والملاحظ في هذا التّفسير أنّه لا يفترق كثيراً عمّا ورد في مضمون التفسرَيْن أعلاه. رابعاً: في مقابل التفاسير الآنفة والتفاسير الأُخرى التي تتشابه في مضمون آرائها مع هذه التفاسير، نلاحظ أنَّ هناك تفسيراً آخر يورده "سيد قطب" في تفسيره "في ظلال القرآن" يختلف فيه مع كل ما ورد، حيث يرى أن الحادثتين لم تقعا في الماضي، بل تتعلقان في المستقبل، فيقول: "فأمّا إِذا عاد بنو إِسرائيل إِلى الإِفساد في الأرض فالجزاء حاضر والسنة ماضية (وإِن عدتم عدنا) ثمّ يقول: "ولقد عادوا إِلى الإِفساد فسلَّط اللّه عليهم المسلمين فأخرجوهم مِن الجزيرة كُلّها. ثمّ عادوا إِلى الإِفساد وسلَّط اللّه عليهم عباداً آخرين، حتى كانَ العصر الحديث فسلط عليهم "هتلر" ولقد عادوا اليوم إِلى الإِفساد في صورة "إِسرائيل" التي أذاقت العرب أصحاب الأرض الويلات. وليسلطنَّ اللّه عليهم مَن يسومهم سوء العذاب، تصديقاً لوعد اللّه القاطع، وفاقاً لسنته التي لا تتخلف ... وإِن غداً لناظره قريب!!)(8). ولكن الإِعتراض الأساسي الذي يرد على هذا التّفسير، هو أنَّ أيّاً مِنهما لم ينته بدخول القوم المنتصرين (على اليهود) إِلى بيت المقدس حتى يخرِّبوه؟ خامساً: الإِحتمال الأخير الذي ورده البعض في تفسير الإِفسادَيْن الكبيريْن لبني إِسرائيل، يرتبط بأحداث ما بعد الحرب العالمية الثّانية، حيثُ يقول هؤلاء: إِن قيام الحزب الصهيوني وتشكيل دولة لليهود باسم "إِسرائيل" في قلب العالم الإِسلامي مثَّل الإِفساد والطغيان والعلو الأوّل لهم، وبذلك فإِنَّ وعي البلاد الإِسلامية لخطر هؤلاء الشعوب الإِسلامية في ذلك الوقت إِلى التوحدّ وتطهير بيت المقدس وقسماً آخر من مدن وقرى فلسطين، حتى أصبح المسجد الأقصى خارج نطاق احتلالهم بشكل كامل. أمّا المقصود مِن الإِفساد الثّاني حسب هذا التّفسير، فهو احتلال اليهود مجدداً للمسجد الأقصى بعد أن حشدت "إِسرائيل" قواها واستعانت بالقوى الدولية الإِستعمارية في شن هجومها الغادر (عام 1967). وبهذا الشكل يكون المسلمون اليوم في انتظار النصر الثّاني على بني إِسرائيل، ليخلّصوا المسجد الأقصى مِن دَنس هؤلاء ويقطعوا دابرهم عن كل الأرض الإِسلامية. وهذا ما وُعِدَ بهِ المسلمون مِن فتح ونصر آت بلا ريب(9). بالطبع هُناك تفاسير وآراء أُخرى في الموضوع صرفنا النظر عنها، ولكن ينبغي أن يلاحظ أنَّ في حال اعتماد التفسّريْن الرّابع والخامس، ينبغي أن نحمل الأفعال الماضية في الآية على معنى الفعل المضارع. وهذا ممكن في أدب اللغة العربية، وذلك إِذا جاءَ الفعل بعد حرف من حروف الشرط. ولكن يُستفاد مِن ظاهر قوله تعالى: (ثمّ رددنا لكم الكرة عليهم وأمددناكم بأموال وبنين وجعلناكم أكثر نفيراً) إِنَّ الإِفساد الأوّل على الأقل - والإِنتقام الإِلهي مِن بني إِسرائيل كان قد وقع في الماضي. وإِذا أردنا أن نتجاوز كل ذلك، فينبغي أن نلتفت إِلى أنّ قوله تعالى: (بعثنا عليكم عباداً لنا أولي بأس شديد) تفيد في أنَّ الرجال الذين سيؤدبون "بني إِسرائيل" على فسادهم وعلوّهم وطغيانهم، هم رجال مؤمنون، شجعان حتى استحقوا لقب العبودية. وممّا يؤكّد هذا المعنى الذي غفلت عنه معظم التفاسير، هو كلمة "وبعثنا" و"لنا". ولكنّا مع ذلك، لا نستطيع الإِدّعاء أن كلمة "بعث" تستخدم فقط في مورد خطاب الأنبياء والمؤمنين، بل هي تستخدم في غير هذه الموارد أيضاً، ففي قصّة هابيل وقابيل يقول القرآن الكريم: (فبعث اللّه غراباً يبحث في الأرض)(10). وكذلك الحال في كلمة "عباد" أو "عبد" فهي تطلق في بعض الأحيان على الأفراد غير الصالحين مِن المذنبين وغيرهم، كما في الآية (58) مِن الفرقان في قوله تعالى: (وكفى به بذنوب عباده خبيراً) والآية (27) مِن سورة الشورى، حيث يقول تعالى: (ولو بسط اللّه الرزق لعباده لبغوا في الأرض) وفي خصوص المخطئين والمنحرفين نقرأ في الآية (118) مِن سورة المائدة قوله تعالى: (إِن تعذبهم فإِنهم عبادك). ولكنّا مع ذلك لا نستطيع أن ننكر - وإِن لم تَقُم قرينة خلاف ذلك - أنَّ العباد الذين بعثهم اللّه للإِنتقام مِن بني إِسرائيل هم مِن العباد المؤمنين الصالحين. وخلاصة البحث إِنَّ هذه الآيات تتحدث عن فسادين كبيرين لبني إِسرائيل، وكيف أنَّ اللّه تبارك وتعالى لم يهمل هؤلاء، بل أذاقهم جزاءهم في الدنيا، وبقي عليهم جزاء الآخرة وحسابها، والدرس الذي نستفيدهُ والإِنسانية جمعاء هو أنَّ اللّه تعالى لا يهمل الظالمين ولا يسكت على ظلمهم بل علينا أن نعتبر ونتعظ مِن دروس التاريخ وأحوال الأُمم الماضية. الثّانية: تحمّل الإِنسان لتبعات أعماله: الآيات الآنفة تشير إِلى قاعدة مهمّة، وهي أنَّ أعمال الإِنسان سواء كانت حسنة أم قبيحة فإِنَّ مردودها يعود إِليه. صحيح أنَّ الآيات تتحدَّث عن بني إِسرائيل، ولكن القاعدة مِن الشمول والعموم بحيث تشمل كافة البشر على مر التاريخ(11). إِنَّ الحياة والتاريخ يعكسان لنا الكثير من تلك النماذج التي أسست أعمالا وسنناً سيئة، وسنّت قوانين ظالمة ومُبتدعة، ولكنّها في النهاية، كانت ضحية ما سنَّت وابتدعت وأسست، وكانت نهايتها ونهاية مَن يلوذ بها الوقوع في نفس الحفرة التي حفرتها للآخرين، وبذلك نالت جزاءها بما اقترفت أيديها. إِنَّ خصوصية هذا الأمر تتّضح أكثر بالنسبة لأعمال الفساد وعلى الأخص العلو والإِستكبار، فإِنّ الإِنسان لابدَّ وأن يذوق في هذه الدنيا جزاء ما اقترف مِن أسباب العلو والإِستكبار والإِفساد. ولهذا السبب بالذات رأينا أنّ بني إِسرائيل لاقوا جزاءهم السريع في الدنيا، من دون أن يعني ذلك انتفاء العقاب الأخروي إِذ عاشوا طويلا واقع الشتات والتشرُّدْ، وذاقوا الكثير من السوء والمصائب. إِنّنا اليوم نعيش مظاهر من فساد بني إِسرائيل وعلوهم وطغيانهم، فهم قد اغتصبوا أرض الآخرين وطردوهم مِنها، وأذاقوا أهلها ألوان القتل والبطش والإِرهاب، وروعوا الأبناء وسبوا النساء، بل لم يحترموا حتى بيوت اللّه في بيت المقدس!! إِنَّ هؤلاء يتعاملون مع العالم بدون رعاية أي شكل مِن أشكال القانون أو الضوابط والمعايير الدولية، فإِذا قامَ - مثلا - فدائي فلسطيني بإِطلاق رصاصة عليهم، فإِنّهم بدلا عنها يقومون بقصف وتخريب المخيمات السكنية للاجئين، ومدارس الأطفال، والمستشفيات. وهم في مقابل خسارتهم لقتيل واحد، يقومون بحصد المئات من الأنفس البريئة ويفجّرون عدداً كبيراً مِن البيوت. إِنَّ هؤلاء يتجاهرون بعدم التزامهم، بل بعدائهم لكل قرارات المنظمات الدولية، والكل يعرف أنّ جرأتهم في مُواجهة العالم إِنّما كانت وما زالت مستمدة مِن دعم القوى الإِستعمارية الدولية لهم - وفي الطليعة منها أمريكا - من دون أن يعني دعم هذه القوى لهم تبريراً لما يمتازون هم بهِ مِن خصائص إِنحرافية ذاتية في الفكر والأخلاق، واستعداد قَبْلي للعلو والطغيان والفساد. إِنّهم بعلوّهم وفسادهم عليهم أن ينتظروا أولئك الذين وصفهم القرآن بقوله: (عباداً لنا أولي بأس شديد) حيث ينالون جزاءهم، وهو وعد الهي قاطع في قرآنه الكريم. الثّالثة: تطبيق الآيات على أحداث التاريخ الإِسلامي: في روايات عدّة نرى انطباق الآيات أعلاه على بعض أحداث التاريخ الإِسلامي حيث يشير بعضها إِلى أنَّ الفساد الأوّل والثّاني هو قتل الإِمام علي بن أبي طالب(عليه السلام)، والعدوان على جنازة الإِمام الحسن(عليه السلام). وبعضها تشير إِلى أنَّ المقصود مِن قوله تعالى: (بعثنا عليكم عباداً لنا أولي بأس شديد) هو الإِشارة إِلى الإِمام المهدي(عليه السلام) وأصحابه. وفي روايات أُخرى نقرأ أنَّ المقصود، هو نهضة مجموعة مِن المسلمين قبل ظهور الإِمام المهدي(عليه السلام)(12). مَن الواضح أنَّ هذه الأحاديث لا تفسّر الآيات تفسيراً لفظياً، لأنَّ الآيات تتحدث بصراحة عن بني إِسرائيل، ولكنّها تتحدث عن التشابه بين نهج هؤلاء (بني إِسرائيل) ونهج ما يقع على شبههم وحالتهم في أحداث التأريخ الإِسلامي. وهكذا ننتهي إِلى نتيجة مؤدّاها أنّ الآيات وإِن تحدّثت عن خصوصيات بني إِسرائيل، إِلاّ أنّها تتسع في مفهومها لترتفع إِلى مستوى القاعدة الكلية، والسنَّة المستمرّة في تأريخ البشرية بما يطويه من حياة شعوب وأُمم. ﴿عَسَى رَبُّكُمْ أَن يَرْحَمَكُمْ﴾ بعد المرة الثانية إن تبتم ﴿وَإِنْ عُدتُّمْ﴾ إلى الفساد ﴿عُدْنَا﴾ إلى عقوبتكم وقد عادوا بتكذيب محمد فسلط عليهم بقتل قريظة وإجلاء النضير وضرب الجزية ﴿وَجَعَلْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ حَصِيرًا﴾ سجنا ومحبسا.