لا يوجد اتصال بالانترنت !
ستتم اعادة المحاولة بعد 10 ثواني ...
جاري التحميل ...
التّفسير أقصر الطرق للهداية والسعادة: الآيات السابقة تحدثَّت عن بني إِسرائيل وكتابهم السماوي "التوراة" وكيف تخلفوا عن برنامج الهداية الإِلهية ليلقوا بعض جزائهم في هذه الحياة الدنيا، والباقي مدخرٌ ليوم القيامة. وفي هذا المقطع مِن الآيات، إِنتقل الحديث إِلى القرآن الكريم، الكتاب السماوي للمسلمين، وآخر حلقة في الكتب السماوية، فقال تعالى أوّلاً: (إِنّ هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم). "أقوم" صيغة تفضيل مُشتقة من "قيام" حيث يكون الإِنسان فيها على أحسن حالاته حينما يريد أن يشرع بعمل ما، لذلك فإِنَّ "القيام" كناية عن أفضل الصيغ التي يُنجز فيها الإِنسان الأعمال التي يُباشرها، أو يستعد لِمَباشرتها. "الإِستقامة" مُشتقّة أيضاً مِن مادة "قيِّم" وهي بمعنى الإِعتدال والإِستواء والثبات. وبما أنّ "أقوم" هي "أفعل تفضيل" بمعنى الأكثر ثباتاً واستقامةً واعتدالا، فإِنَّ معنى الآية أعلاه، هو أنَّ القرآن الكريم يمثل أقصر وأفضل طرق الإِستقامة والثبات والهداية وبهذا فإنّ الطريق القويم. من وجهة نظر العقائد والأفكار، يتمثل بالعقائد الواضحة، القابلة للهضم والإِدراك والفهم، والتي تكون أساساً للعمل; وتعبئة الطاقات الإِنسانية باتجاه الإِعمار والبناء. العقيدة الأقوم هي العقيدة الخالية مِن الخرافات والأوهام، وَهي التي تُوائم بين الإِنسان وعالم الوجود والطبيعة مِن حوله. العقيدة الأقوم مِن هذه الزاوية، هي التي توافق بين الإِعتقاد والعمل، والظاهر والباطن، الفكر والمنهج، وتدفع الإِنسان والجميع نحو اللّه. أمّا الأقوم مِن وجهة نظر القوانين الإِجتماعية والإِقتصادية والعسكرية والسياسية، التي تسود المجتمع; فهي تلك التي تربّي في المجتمع الإِنساني الجوانب المادية والمعنوية وتدفع الجميع نحو التكامل والإِتساق. والأقوم مِن وجهة النظر العبادية والأخلاقية، هو كل ما يجعل الإِنسان في المركز الوسط بين الإِفراط والتفريط، ويجعلهُ في موقع الإِعتدال بين الإِسراف والبخل، بين الإِستضعاف والإِستكبار. وأخيراً فإِنَّ المنهج الأقوم بالنسبة للنظم والسلطات الحاكمة، هو كل ما يدفعها إِلى إِقامة العدل، والدعوة إِلى إِشاعة الإِنصاف، ومواجهة الظلم والظالمين. نعم، إِنَّ القرآن هو الطريق الأقوم في كل تلك المستويات الآنفة الذكر، وهو الأسلوب الأقوم في كل جوانب الحياة والوجود، وعلى كافة القضايا والصُعد. ولكنّا هنا نقف مع نقطة حساسة، وهي إِذا كانَ القرآن هو الأقوم; أي "أفعل تفضيل" فمعنى ذلك تفوقه في ميزات العدل وصفات الهداية والإِستقامة ليس على سائر المذاهب والعقائد الوضعية وحسب، وإِنّما على سائر الأديان والشرائع السابقة عليه أيضاً. وإِزاء المفهوم الذي تطرحهُ هذه النقطة نرى أنفسنا بحاجة إِلى إِثارة الحديث على النحو الآتي. أوّلاً: إِذ كانت أطراف المقايسة هي الأديان السماوية الأخرى، فلا شك أنَّ كل دين وشريعة منها كانت أفضل وأقوم لوقتها وزمانها، ولكن وفق قانون التكامل الذي وِصلت البشرية بُمقتضاه إِلى أقصى حالات رشدها وتكاملها، في زمن الرسالة الإِسلامية الخاتمة والنّبوة الخاتمة، فإِنَّ القرآن الكريم يعبِّر تبعاً لذلك عن أرقى وأقوم مضامين الهداية والإِستقامة الإِعتدال. ثانياً: أمّا إِذا كانَ طرف المقايسة هو المذاهب والعقائد الوضعية، فمن الطبيعي جدّاً أن يكون القرآن كتاب السماء الواصل إِلينا مِن اللّه ذي العلم المطلق، هو الأقوم والأظهر عليها، لأنَّ العقائد الوضعية مهما بلغت مزاياها فهي نتاج الفهم المحدود للبشر. ثالثاً: أشرنا في غير مكان إِلى أن "أفعل تفضيل" لا يدلُّ دائماً على أنَّ الموضوع لابدّ وأن يكون طرفاً للمقايسة، كما في قوله تعالى: (أفمن يهدي إِلى الحق أحق أن يتبع أم من لا يهدي إِلاّ أن يُهدى)(1). وعلى هامش هذه النقطة ينبغي أنْ لا يفوتنا أن تعبير "أقوم" في الآية الآنفة يشير الى أنَّ الإِسلام هو آخر أديان السماء، وأنَّ النّبي الأكرم(صلى الله عليه وآله وسلم) هو آخر الأنبياء. وكيفية ذلك، هو أنَّ أقوم بوصفها أفعل تفضيل، تمثل أعلى درجات التفضيل، ولأنَّ الآية لا تذكر الطرف الآخر في المقايسة والذي يكون القرآن أقوم بالنسبة إِليه; وطالما أنَّ حذف المتعلق يدل على العموم كما يقول الأصوليون، فينتج أنَّ الإِسلام آخر الأديان، وأنَّ محمداً (صلى الله عليه وآله وسلم) خاتم الرسل، لأنَّهُ ليسَ بعد صيغة تفضيل "أقوم" من درجة في التفضيل. بعد ذلك تشير الآيات إِلى موقف الناس في مقابل الكتاب الأقوم، هذا الموقف الذي ينقسم فيه الناس إِلى فئتين، فالأُولى يكون حالها كما يقول تعالى: (ويبشر المؤمنين الذين يعملون الصالحات أنّ لهم أجراً كبيراً). ﴿إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يِهْدِي لِلَّتِي﴾ للطريقة التي ﴿هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا كَبِيرًا﴾.