التّفسير
أربعة أُصول إِسلامية مهمّة:
لقد تحدَّثت الآيات القرآنية السابقة عن القضايا التي تتصل بالمعادِ والحساب، لذلك فإِنَّ الآيات التي نبحثها الآن تتحدَّث عن قضية "حساب الأعمال" التي يتعرض لها البشر، وكيفية ومراحل إِنجاز ذلك في يوم المعاد والقيامة حيثُ يقول تعالى: (وكلَّ إِنسان ألزمناهُ طائرهُ في عنقه).
"الطائر" يعني الطير.
ولكن الكلمة هنا تشير إِلى معنى آخر كانَ سائداً ومعروفاً بين العرب; إِذ كانوا يتفألون بواسطة الطير; وكانوا يعتمدون في ذلك على طبيعة الحركة التي يقوم بها الطير.
فمثلا إِذا تحرَّك الطير مِن الجهة اليمنى، فَهُم يعتبرون ذلك فألا حسناً وَجميلا.
أمّا إِذا تحرَّك الطير مِن اليُسرى فإِنَّ ذلك في عُرفهم وعاداتهم علامة الفأل السيء، أو ما يعرف بلغتهم بالتطّير، من هنا فإنّ هذه الكلمة غالباً ما كانت تعني الفأل السيء في حين أنَّ كلمة التفؤل (عكس التطيُّر) كانت تُشير إِلى الفأل الجميل الحسن.
وفي الآيات القرآنية وَرد مراراً أنَّ "التطيُّر" هو بمعنى الفأل السيء حيثُ يقول تعالى في الآية (131) مِن سورة الأعراف: (وإِن تُصبهم سيئةً يَطَيّروا بموسى وَمَن معهُ) وفي الآية (47) مِن سورة النمل نقرأُ أيضاً: (قالوا طيِّرنا بك وبمن معك) والآية تحكي خطاب المشركين مِن قوم صالح(عليه السلام) لنبيّهم.
بالطبع عِندما نقرأ الأحاديث والرّوايات الإِسلامية نراها تنهى عن "التطيُّر" وتجعل "التوكل على اللّه" طريقاً وأُسلوباً لمواجهة هذه العادة.
وفي كلِّ الأحوال فإِنَّ كلمة "طائر" في الآية التي نبحثها، تشير إِلى هذا المعنى بالذات، أو أنّها على الأقل تُشير إِلى مسألة "الحظ وحسن الطالع" التي تقترب في أُفق واحد مع قضية التفؤل الحَسَنِ والسيء، إنّ القرآن - في الحقيقة - يبيّن أنَّ التفؤل الحسن والسيء أو الحظ النحس والجميل، إِنّما هي أعمالكم لا غير، والتي ترجع عهدتها إِليكم وتتحملون على عاتقكم مسؤولياتها.
إِنَّ تعبير الآية الكريمة، بكلمتي "ألزمناه" و"في عنقه" تدُلان بشكل قاطع على أنَّ أعمال الإِنسان والنتائج الحاصلة عن هذه الأعمال لا تنفصل عنه في الدنيا ولا في الآخرة، وهُو بالتالي، وفي كل الأحوال عليه أن يكون مسؤولا عنها، إذ أنّ الملاك هو العمل دون غيره.
بعض المفسّرين ذكروا في إِطلاق معنى كلمة "طائر" على الأعمال الإِنسانية أنّها تعني أنَّ الأعمال الحسنة والأعمال القبيحة للإِنسان كالطير الذي يطير مِن بين جنباته، لذلك شبهوها (أي الأعمال) بالطائر.
وفي كل الأحوال، اختلفَ المفسّرون في معنى كلمة (طائر) في هذه الآية، وقد أوردوا في ذلك مجموعة احتمالات مِنها أنَّ "الطائر" بمعنى "حصيلة ما يجنيه الإِنسان من أعماله الحسنة والسيئة"، أو أنَّ الطائر بمعنى "الدليل والعلامة"، وبعضهم قال: إِن معناه "صحيفة أعمال الإِنسان" بينما ذهب البعض الآخر إِلى أنَّ معنى "الطائر" هو "اليُمن والشؤم".
ولكن الملاحظ في هذه التّفسيرات جميعاً، أنَّ بعضها يرجع إِلى نفس التّفسير الذي ذكرناه في البداية; كما أن بعضها الآخر بعيد عن معنى الآية.
يقول القرآن بعد ذلك: (وَنخرج لُه يوم القيامة كتاباً يلقاه منشوراً).
ومِن الوضح أنَّ المقصود مِن "الكتاب" في الآية الكريمة هي صحيفة الأعمال لا غير.
وهي نفس الصحيفة الموجودة في هذه الدنيا والتي تُثَّبت فيها الأعمال، ولكنّها هنا (في الدنيا) مخفيةٌ عنّا ومكتومة، بينما في الآخرة مكشوفة ومعروفة.
إنَّ التعبير القرآني في كلمتي "نخرج" و"منشوراً" يشير إِلى هذا المعنى، إِذ نخرج وننشر ما كان مخفياً ومكتوماً.
وبالنسبة الصحيفة الأعمال وحقيقتها وما يتعلق بها، فسيأتي البحث عنها في نهاية هذه الآيات.
﴿وَكُلَّ إِنسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَآئِرَهُ﴾ عمله من خير وشر ﴿فِي عُنُقِهِ﴾ لزوم الطوق في عنقه ﴿وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَابًا﴾ وهو صحيفة عمله ﴿يَلْقَاهُ مَنشُورًا﴾ ويقال له.