لا يوجد اتصال بالانترنت !
ستتم اعادة المحاولة بعد 10 ثواني ...
جاري التحميل ...
ثالثاً: الحكم الآخر الذي تشير إِليه الآية التي بعدها، هو احترام دماء البشر، وتحريم قتل النفس حيث تقول: (ولا تقتلوا النفس التي حرّم اللّه إِلاّ بالحق). إِنَّ احترام دماء البشر وحرمة قتل النفس تعتبر من المسائل المتفق عليها في كل الشرائع السماوية وقوانين البشر، فقتل النفس المحترمة لدى الجميع مِن الذنوب الكبيرة، إِلاَّ أنَّ الإِسلام أعطى أهمية إِستثنائية لهذه المسألة بحيث اعتبر مَن يقتل إِنساناً فكأنّما قتل الناس جميعاً، كما في الآية (32) مِن سورة المائدة (مَن قتل نفساً بغير نفس أو فساد في الأرض فكأنما قتل الناس جميعاً). بل نستفيد مِن بعض الآيات القرآنية أنَّ جزاء قتل النفس بغير حق هو الخلود في النّار، وأنَّ هؤلاء الذين يتورطون في دم الأبرياء يخرجون عن ربقة الإِيمان، ولا يمكن أن يخرجوا مِن هذه الدنيا مؤمنين: (وَمَن قتل مؤمناً مُتعمداً فجزاؤه جهنَّم خالداً فيها)(2). وحتى في الإِسلام فإِنَّ الذين يشهرون السلاح بوجه الناس ينطبق عليهم عنوان "محارب" وهذا الصنف لهُ عقوبات شديدة مُفصّلة في المصنفات الفقهية، وقد أشرنا إِلى بعضها أثناء الحديث عن الآية (33) من سورة المائدة. إِنَّ الإِسلام يُحاسب على أقل أذى ممكن أن يلحقهُ الإِنسان بالآخرين، فكيف بقضية القتل وإِراقة الدماء؟!! وهنا نستطيع أن نقول - باطمئنان -: إِننا لا نرى أيَّ شريعة غير الإِسلام أعطت هذه الحرمة الإِستثنائية لدم الإِنسان، بالطبع هناك حالات ينتفي معها احترام دم الإِنسان، كما لو قام بالقتل أو ما يوجب إِنزال العقوبة به، لذلك فإِنَّ الآية بعد أن تُثبت حرمة الدم كأصل، تشير للإِستثناء بالقول: (إِلا بالحق). وفي حديث معروف عن الرّسول(صلى الله عليه وآله وسلم) نقرأ: "لا يحل دم امريء مسلم يشهد أن لا إِله إِلاّ اللّه وأنّ محمداً رسول اللّه إِلاّ بإِحدى ثلاث: النفس بالنفس، والزاني المُحصن، والتارك لدينه المفارق للجماعة"(3). أمّا القاتل فتكون نهايتهُ معلومة بالقصاص، الذي يُؤمّن استمرار الحياة واستقرارها، وإِذا لم يعط الحق لأولياء دم المقتول بالقصاص مِن القاتل، فإِنَّ القتلة سيتجرؤون على المزيد من القتل والإِخلال بالأمن الإِجتماعي. أمّا الزاني المحصن، فإنّ قتله في قبال واحد من أعظم الذنون قباحة، وهو يساوى سفك الدم الحرام في المرتبة. أمَّا قتل المرتد فيمنع الفوضى والإِخلال في المجتمع الإِسلامي، وهذا الحكم - كما أشرنا سابقاً - هو حكم سياسي، لأجل حفظ النظام الإِجتماعي في قبال الأخطار التي تهدِّد كيان النظام الإِسلامي ووحدة أمنه الإِجتماعي، والإِسلام - عادةً - لا يفرض على أحد قبول الإِنتماء إِليه، ولكن إِذا اقتنع أحد بالإِسلام واعتنقهُ، وأصبح جزاءاً من المجتمع الإِسلامي، واطلع على أسرار المسلمين، ثمّ أراد بعد ذلك الإِرتداد عن الإِسلام ممّا يؤدي عملا الى تضعيف وضرب قواعد المجتمع الإِسلامي، فإِن حكمه سيكون القتل(4) بالشرائط المذكورة في الكتب الفقهية. إِنَّ حرمة دم الإِنسان في الإِسلام لا تختص بالمسلمين وحسب، بل تشمل غير المسلمين أيضاً مِن غير المحاربين، والذين يعيشون مع المسلمين عيشة مُسالمة، فإِنَّ دماءهم - أيضاً - وأعراضهم وأرواحهم مصونة ويحرم التجاوز عليها. تشير الآية بعد ذلك إلى إثبات حق القصاص بالمثل لولي القتيل فتقول: (ومَن قتل مظلوماً فقد جعلنا لوليه سلطاناً). ولكن في نفس الوقت ينبغي لولي المقتول أن يلتزم حد الإِعتدال ولا يسرف (فلا يسرف في القتل إِنَّهُ كانَ منصوراً)إِذ ما دام ولي الدم يتحرك في الحدود الشرعية فإنّه سيكون مورداً لنصرة اللّه تعالى. والنهي عن الإِسراف تشير إلى واقع كان سائداً في الجاهلية، واليوم أيضاً يُمكن مُشاهدة نماذج لها، فحين يُقتل فرد مِن قبيلة معينة، فإِنّها تقوم بهدر الكثير مِن الدماء البريئة من قبيلة القاتل. أو أن يقوم أولياء الدم بقتل أناس أبرياء أو الذين لا يستطيعون الدفاع عن أنفسهم. كأن يكون المقتول شخصاً معروفاً وذا منزلة إِجتماعية، فإِنَّ أهله وفق الأعراف الجاهلية، سوف لن يكتفوا بحدّ القصاص الشرعي، بل يقتلون فرداً معروفاً ومكافئاً في منزلته الإِجتماعية للمقتول من قبيلة القاتل حتى وإِن لم يكن له أي دور في عملية القتل.(5) وعصرنا الحاضر، شهد مِن التجاوز في الإِسراف وهدر دِماء الأبرياء ما غسل معه عار أهل الجاهلية، فهذه إِسرائيل اليوم تقوم بحجة قتل أحد جنودها بإِلقاء القنابل والصواريخ على رؤوس النساء والأطفال الفلسطنيين الأبرياء، وتعمد إِلى هدم ديارهم. كذلك شهدت سنوات الحرب الظالمة التي شنّها النظام البعثي على الجمهورية الإِسلامية أسواء أنواع العدوان على دماء الأبرياء والإِسراف في القتل. إِنَّ رعاية العدالة - حتى في عقاب القاتل - تعتبر مهمّة إِسلامياً، لذلك نقرأ في وصية الإِمام علي(عليه السلام)، بعد أن اغتاله عبدالرحمن بن ملجم المرادي قوله: "يا بني عبد المطلب، لا ألفينكم تخوضون دماء المسلمين، تقولون قتل أمير المؤمنين، ألا لا تقتلن بي إِلاّ قاتلي، انظروا إِذا أنا مت مِن ضربته هذه، فاضربوه، ضربة بضربة، ولا تمثلوا بالرجل"(6). ﴿وَلاَ تَقْتُلُواْ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللّهُ إِلاَّ بِالحَقِّ﴾ كالقود والردة وحد المحصن ﴿وَمَن قُتِلَ مَظْلُومًا﴾ بغير حق ﴿فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا﴾ تسلطا على القاتل ﴿فَلاَ يُسْرِف﴾ الولي بتجاوز الحد ﴿فِّي الْقَتْلِ﴾ بالمثلة أو قتل غير القاتل ﴿إِنَّهُ كَانَ مَنْصُورًا﴾ من الله بإيجاب القصاص.