لا يوجد اتصال بالانترنت !
ستتم اعادة المحاولة بعد 10 ثواني ...
جاري التحميل ...
سبب النّزول انتشر مرض الطاعون في إحدى مدن الشام وأخذ يحصد الناس بسرعة عجيبة، فهجر المدينة جمع من الناس أملاً في النجاة من مخالب الموت. وإذ نجوا من الموت فعلاً بهروبهم من ذلك الجو المبوء، شعروا في أنفسهم بشيء من القدرة والإستقلالية، وحسبوا أنّ نجاتهم مدينة لعوامل طبيعية غافلين عن إرادة الله ومشيئته، فأماتهم الله في تلك الصحراء بالمرض نفسه. قيل: إنَّ نزول المرض بأهل هذه المدينة كان عقاباً لهم، لأنّ زعيمهم وقائدهم طلب منهم أن يستعدّوا للحرب وأن يخرجوا من المدينة. ولكنّهم رفضوا الخروج للحرب بحجّة أنّ مرض الطاعون متفشيّ في ميادينها، فابتلاهم الله بما كانوا يخشونه ويفرّون منه، فانتشر بينهم مرض الطاعون، فهجروا بيوتهم وهربوا من المرض إلى خارج المدينة حيث انشب المرض مخالبه فيهم وماتوا. ومضى زمان على هذا حتّى مرّ يوماً "حزقيل"(1) أحد أنبياء بني إسرائيل بذلك المكان ودعا الله أن يحييهم، فأستجاب الله دعاءه وأحياهم. التّفسير كيف ماتوا وكيف عادوا إلى الحياة؟! هذه الآية كما مرّ في سبب نزولها تشير إشارة عابرة ولكنّها معبّرة إلى قصّة أحد الأقوام السّالفة التي انتشر بين أفرادها مرض خطير وموحش بحيث هرب الآلاف منهم من ذلك المكان فتقول الآية: (ألم ترَ إلى الَّذين خرجوا من ديارهم وهم اُلوف حذر الموت). من الأساليب الشايعة في الأدب العربي استعمال تعبير (ألم تر) فيما يطلب الفات النظر إليه، وبالرّغم من أنّ المخاطب هو رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)ولكنّ الكلام موجّه بطبيعة الحال إلى جميع الناس. ورغم أنّ الآية أعلاه لا تشير إلى عدد خاص واكتفت بكلمة (اُلوف)ولكنّ الوارد في الروايات أنّ عددهم كان عشرة آلاف، وذكرت روايات اُخرى أنّهم كانوا سبعين ألف أوثمانين ألف(2). ثمّ أنّ الآية أشارت إلى عاقبتهم فقالت: (فقال لهم الله موتوا ثمّ أحياهم)لتكون قصّة موتهم وحياتهم مرّة اُخرى عبرة للآخرين. ومن الواضح أنّ المراد من (موتوا) ليس هو الأمر اللفظي بل هو أمر الله التكويني الحاكم على كلّ حيّ في عالم الوجود، أي أنّ الله تعالى أوجد أسباب هلاكهم فماتوا جميعاً في وقت قصير، وهذه أشبه بالأمر الذي أورد في الآية 82 من سورة يس (إنّما أمره إذا أراد شيئاً أن يقول له كن فيكون)(3). وجملة (ثمّ أحياهم) إشارة إلى عودتهم إلى الحياة بعد موتهم إستجابة لدعاء (حزقيل النبي) كما ذكرنا في سبب نزول الآية، ولمّا كانت عودتهم إلى الحياة مرّة اُخرى من النعم الإلهيّة البيّنة (نعمة لهم ونعمة لبقيّة الناس للعبرة) ففي ختام الآية تقول (إنّ الله لذو فضل على النّاس ولكنّ أكثر الناس لا يشكرون)فليست نعمة الله وألطافه وعنايته تنحصر بهؤلاء، بل لجميع الناس. بحوث هنا ينبغي أن نشير إلى بعض النقاط: 1- هل هذه الحادثة التاريخيّة حقيقيّة، أم مجرّد تمثيل؟ هذه الحكاية التي ذكرناها، أهي حدث تاريخي واقعي أشار إليه القرآن إشارة عابرة، ثمّ شرحته الروايات والأحاديث، أم أنّها أُقصوصة لتجسيد الحقائق العقلية وبيانها بلغة حسّية؟ لمّا كان لهذه الحكاية جوانب غير عادية بحيث صعب هضمها على بعض المفسّرين، فإنّهم أنكروا كونها حقيقة واقعة، وقالوا إنّ ما جاء في الآية إنّما هو من باب ضرب المثل بقوم يضعفون عن الجهاد ضدّ العدوّ فيُهزمون ثمّ يعتبرون بما جرى فيستيقظون ويستأنفون الجهاد ومحاربة العدوّ وينتصرون. وبموجب هذا التفسير يكون معنى "موتوا" الهزيمة في الحرب بسبب الضعف والتهاون. و "أحياهم" إشارة إلى الوعي واليقظة ومن ثمّ النصر. هذا التفسير يرى أنّ الروايات التي تعتبر هذه الحادثة واقعة تاريخية روايات مجعولة وإسرائيلية. وعلى الرغم من أن مسألة "الهزيمة" بعد التهاون و "الانتصار" بعد اليقظة مسألة هامّة ورائعة، ولكن لا يمكن إنكار كون ظاهر الآية يدلّ على بيان حادثة تاريخية بعينها، وليست تمثيلاً. إنّ الآية تتحدّث عن قوم من الماضين ماتوا على أثر هروبهم من حدث مروّع ثمّ أحياهم الله. فإذا كانت غرابة الحادثة وبعدها عن المألوف هو السبب في تأويلها ذاك التأويل، فهذا إذاً ما ينبغي أن نفعله بشأن جميع معاجز الأنبياء. ولو أنّ أمثال هذه التأويلات والتوجيهات وجدت طريقها إلى القرآن لأمكن إنكار معاجز الأنبياء، فضلاً عن إنكار معظم قصص القرآن التاريخية واعتبارها من قبيل القصص الرمزي التمثيلي، كأن نعتبر قصّة هابيل وقابيل قصّة موضوعة لتمثّل الصراع بين العدالة وطلب الحقّ من جهة، والقسوة والظلم من جهة اُخرى، وبهذا تفقد قصص القرآن قيمتها التاريخية. وفضلاً عن ذلك فإننا لا نستطيع أن نتجاهل الروايات الواردة في تفسير هذه الآية، لأنّ بعضها قد ورد في الكتب الموثوق بها ولا يمكن أن تكون من الإسرائيلات المجعولة. 2- درسٌ للعبرة هدف الآية في الواقع كما ورد في سبب النزول هو إشارة إلى جماعة من بني إسرائيل الّذين كانوا يتذرّعون تهرّباً من الجهاد بمختلف المعاذير، فابتلاهم الله بمرض الطّاعون حيث فتك بهم سريعاً وأفناهم وأبادهم إلى درجة أنّه لا يستطيع أي عدوّ شرس أن يصنع ذلك في ميدان القتال، فبهذا تقول الآية لهم أنّه لا تتصوّروا أنّ التهرّب من المسؤوليّة والتوسّل بالأعذار الواهية يجعلكم في مأمن من الخطر، فأنتم أعجز من أن تقفوا أمام قدرة الله تعالى، فإنّه تعالى قادرٌ على أن يبتليكم بعدوٍّ صغير لايرى بالعين وهو مكروب الطّاعون أو الوباء وأمثال ذلك فيختطف أرواحكم فيذركم كعصف مأكول. 3- مسألة الرّجعة النقطة الاُخرى التي لابدّ من الإلتفات إليها هنا هي مسألة إمكان الرّجعة التي تُستفاد من الآية بوضوح. وتوضيح ذلك: أنّ التاريخ يحدّثنا عن بعض الأقوام من السالفين ماتوا ثمّ اُعيدوا إلى هذه الدنيا، كما في حادثة طائفة من بني إسرائيل الّذين توجّهوا مع النبي موسى (عليه السلام) إلى جبل طور الواردة في آية 55 و 56 من سورة البقرة وقصّة "عزير" أو إرميا الواردة في الآية 259 من هذه السورة، وكذلك الحادثة المذكورة في هذه الآية مورد البحث. فلا مانع أن تتكرّر هذه الحادثة مرّة اُخرى في المستقبل. العالم الشيعي المعروف بـ "الصدوق" (رحمه الله) استدلّ بهذه الآية على القول بالرّجعة وقال: (إنّ من معتقداتنا الرّجعة) أي رجوع طائفة من الناس الّذين ماتوا في الأزمنة الغابرة إلى هذه الدّنيا مرّة اُخرى، ويمكن كذلك أن تكون هذه الآية دليلاً على المعاد وإحياء الموتى يوم القيامة. ﴿أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُواْ مِن دِيَارِهِمْ﴾ هم أهل مدينة من مدائن الشام ﴿وَهُمْ أُلُوفٌ﴾ كانوا سبعين ألف بيت ﴿حَذَرَ الْمَوْتِ﴾ إذ وقع فيهم الطاعون ﴿فَقَالَ لَهُمُ اللّهُ مُوتُواْ﴾ فماتوا وصاروا رميما ﴿ثُمَّ أَحْيَاهُمْ﴾ بدعوة حزقيل النبي وعاشوا ما شاء الله ثم ماتوا بآجالهم ﴿إِنَّ اللّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ﴾ كإحياء أولئك ليعتبروا وذكر خبرهم ليستبصروا ﴿وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَشْكُرُونَ﴾ له حق شكره.