الآية التالية تؤكّد على أن الشخص المهتدي هو الذي قذف الله تعالى بنور الإِيمان في قلبه: (وَمَن يهدي الله فهو المهتد) أمّا من أظلّه الله بسوء أعماله: (وَمَن يُضلل فلن تجد لهم أولياء مِن دونه).
فالطريق الوحيد هو أن يرجعوا إِليه ويطلبوا نور الهداية منهُ.
هاتان الجملتان تُثبتان أنَّ الدليل القوي والقاطع لا يكفي للإِيمان، فما لم يكن هُناك توفيق إِلهى لا يستقر الإِيمان أبداً.
هذا التعبير يشبه دعوتنا لمجموعة لأن تفعل الخير بعد أن نشرح لهم أهمية الموضوع بواسطة الأدلة المُختلفة، إِلاَّ أنَّ الحصيلة العملية ستكون موافقة البعض، وامتناع البعض الآخر عن فعل الخير برغم صحة الأدلة.
وبذلك لا يكون كل واحد لائقاً لفعل الخير.
وهذه حقيقة فليس كل قلب يليق لأن ينال نور الحق، إِضافة إِلى أنَّ الكلام يُثير المستمع، وقد يحدث أن يترك الشخص بتأثير هذا الكلام عناده ولجاجته ليثبت لياقته للحق ويستسلم له.
وقُلنا مِراراً: إِنَّ الهداية والضلالة الإِلهيتين ليستا شَيْئَيْنِ جبريين، بل تخضعان للأثر المباشر لأعمال الإِنسان وصفاته، فالأشخاص الذين جاهدوا أنفسهم وسعوا بجدية في طريق القرب الإِلهي، فمن البديهي أن الله سيوفقّهم ويهديهم: (والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سُبلنا)(2).
أمّا أُولئك الذين يسلكون طريق العناد والمُكابرة وتتلوَّث فطرتهم وقلوبهم بأنواع الذنوب والمفاسد والمظالم، فإنّهم قد قضوا على أي استعداد أو جدارة لديهم في قبول الحق بالتالي مستحق للضلالة: (ويضل الله الظالمين)(3).
(وما يضل إِلاَّ الفاسقين)(4).
(كذلك يضل الله مَن هُوَ مسرف مرتاب)(5).
أمّا عن سبب مجيء "أولياء" بصيغة الجمع، فقد يعود ذلك للإِشارة إلى تعدُّد الآلهة الوهمية أو تنوع الوسائل التي يلجأون إِليها، فيكون المقصود أنَّ جميع هذه الوسائل وجميع البشر وغير البشر، وكل ما تؤلهون مِن آلهة مِن دون الله، لا يستطيع أن ينقذكم مِن الضلالة وسوء العاقبة.
ثمّ تذكر الآيات - بصيغة التهديد القاطع - جانباً مِن مصيرهم بسبب أعمالهم في يوم القيامة فتقول: (ونحشرهم يوم القيـمة على وجوهم) فبدلا مِن الدخول بشكل عادي وبقامة منتصبة، فإِنَّ الملائكة الموكلين بهم يسحبونهم إِلى جهنَّم على وجوههم تعذيباً لهم.
البعض يعتقد أنَّ هؤلاء يُسبحون يوم القيامة بسبب عجزهم في ذلك اليوم عن المشي، لذلك فإِنّهم يزحفون كالزواحف على وجوههم وصدورهم بشكل ذليل ومؤلم.
نعم، فأُولئك محرومون مِن نعمة كبيرة، هي نعمة المشي على الأرجل، لأنّهم لم يستفيدوا مِن هذه الوسيلة في هذه الدنيا في سلوك طريق السعادة والهداية، بل خصصوها لسلوك طرق الذنوب والمعاصي.
ثمّ هم يُحشرون: (عمياً وبكماً وصماً).
وهُنا قد يطرح هذا السؤال، وهو: إِنَّ المجزمين وأهل الجحيم ينظرون ويسمعون ويتكلمون، فكيف تقول هذه الآية (عمياً وبكماً وصُماً)(6)؟
للمفسّرين أقوال مُتعدِّدة في الإِجابة على هذا السؤال، إِلاَّ أن أفضلها جوابان نستطيع إِجمالهما فيما يلي:
أوّلا: إِنَّ مراحل ومواقف يوم القيامة مُتعدِّدة، ففي بعض المراحل والمواقف يكون هؤلاء صُماً وبكماً وعمياً، وهذا نوع مِن العقاب لهم، لأنّهم لم يستفيدوا مِن هذه النعم الإِلهية بصورة صحيحة في حياتهم الدنيا.
إِلاَّ أنَّهُ - في مراحل لاحقة - فإِنَّ عيونهم تبدأ بالنظر، وآذانهم بالسماع، وألسنتهم بالنطق حتى يروا منظر العذاب ويسمعون كلام الشامتين، ويبدأون بالتأوه والصراخ وإِظهار ضعفهم، حيث أن كل هذه الأُمور هي نوع آخر مِن العقاب لهم.
ثانياً: إِنَّ المجرمين وأهل النار محرومون مِن رؤية ما هو سارّ ومِن سماع أُمور تبعث على الفرح، ومِن قول كلام يستوجب نجاتهم، بل على العكس مِن ذلك، فهم لا ينظرون ولا يسمعون ولا يقولون إلاّ ما يُؤذي ويؤلم.
في الختام تقول الآية: (مأواهم جهنَّم).
لكن لا تظنّوا أنَّ نارها كنار الدنيا تنطفي في النهاية، بل هي: (كُلّما خبت زدناهم سعيراً)
﴿وَمَن يَهْدِ اللّهُ﴾ بلطفه أو يحكم بهديه ﴿فَهُوَ الْمُهْتَدِ﴾ وقرىء بالياء ﴿وَمَن يُضْلِلْ﴾ يمنعه اللطف أو يحكم بضلاله ﴿فَلَن تَجِدَ لَهُمْ أَوْلِيَاء مِن دُونِهِ﴾ يهدونهم ﴿وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى وُجُوهِهِمْ﴾ يسحبون عليها أو يمشيهم الله عليها بقدرته ﴿عُمْيًا﴾ لا يرون ما يسرهم ﴿وَبُكْمًا﴾ لا ينطقون بما ينفعهم ﴿وَصُمًّا﴾ لا يسمعون ما يمنعهم وقيل يحشرون من الموقف إلى النار موفى الحواس ﴿مَّأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ كُلَّمَا خَبَتْ﴾ سكن لهبها بإفنائهم ﴿زِدْنَاهُمْ سَعِيرًا﴾ تلهبا واشتعالا بهم بإعادتهم.