لا يوجد اتصال بالانترنت !
ستتم اعادة المحاولة بعد 10 ثواني ...
جاري التحميل ...
حادثة ذات عبرة: من الضروري وقبل الشروع في تفسير هذه الآيات الشريفة التعرض لجانب من تاريخ بني إسرائيل المنظور في هذه الآيات. اليهود الذين كانوا قد استضعفوا تحت سلطة الفراعنة استطاعوا أن ينجوا من وضعهم المأساوي بقيادة موسى (عليه السلام) الحكيمة حتى بلغوا القوّة والعظمة. لقد أنعم الله على اليهود ببركة نبيّهم الكثير من النِعم بما فيها "صندوق العهد"(1) الذي حمله اليهود أمام الجند فأضفى عليهم الطمأنينة والمعنوية العالية، وظلّت هذه الروحية فيهم بعد رحيل موسى (عليه السلام) مدّة من الزمن، إلاَّ أنّ تلك النِعم والإنتصارات أثارت في اليهود الغرور شيئاً فشيئاً، وأخذوا بمخالفة القوانين، وأخيراً اندحروا على أيدي الفلسطينيين وخسروا قوّتهم ونفوذهم بخسارتهم صندوق العهد، فكان أن تشتّتوا وضعفوا ولم يعودوا قادرين على الدفاع عن أنفسهم حتّى أمام أتفه أعدائهم، بحيث إنّ هؤلاء الأعداء طردوا الكثيرين منهم من أرضهم وأسروا أبناءهم. استمرّت حالهم على هذا سنوات طوالاً، إلى أن أرسل إليهم الله نبيّاً اسمه "اشموئيل" لإنقاذهم وهدايتهم، فتجمّع حوله اليهود الذين كانوا قد ضاقوا ذرعاً بالظلم وكانوا يبحثون عن ملجأ يأوون إليه، وطلبوا منه أن يختار لهم قائداً وأميراً لكي يتوحّدوا تحت لوائه، ويحاربوا العدوّ متّحدين يداً ورأياً، لإستعادة عزّتهم الضائعة. اشموئيل الذي كان يعرف ضعفهم وتهاونهم وهبوط معنويّاتهم قال لهم: أخشى إن اخترت لكم قائداً أن تخذلوه عندما يدعوكم إلى الجهاد ومحاربة العدو. فقالوا: كيف يمكن أن نعصي أوامر أميرنا ونرفض القيام بواجبنا، مع أنّ العدوّ قد شرّدنا من أوطاننا واستولى على أرضنا وأسر أبناءنا!! فرأى اشموئيل أنّ هؤلاء القوم قد شخّصوا داءهم وها هُم قد اتجهوا للمعالجة، ولعلّهم أدركوا سبب تخلّفهم، فتوجّه إلى الله يعرض عليه ما يطلبه القوم فأوحى إليه: أن اخترنا "طالوت" ملكاً عليهم. فقال اشموئيل: ربّ إِني لا أعرف طالوت ولم أره حتّى الآن. فجاءه الوحي: سنرسله إليك فاعطه قيادة الجيش ولواء الجهاد. من هو طالوت؟ كان طالوت رجلاً طويل القامة، ضخماً، حسن التركيب، متين الأعصاب قويّها، ذكيّاً، عالماً، مدبّراً. ويقول بعض: إنّ اختيار اسم "طالوت" له كان لطوله، ولكنّه مع كلّ ذلك لم يكن معروفاً، حيث كان يعيش مع أبيه في قرية على أحد الأنهر، ويرعى ماشية أبيه ويشتغل بالزراعة. أضاع يوماً بعض ماشيته في الصحراء، فراح يبحث عنها مع صاحب له بضعة أيّام حتّى اقتربا من مدينة صوف. قال له صاحبه: لقد اقتربنا من صوف مدينة النبيّ اشموئيل، فتعال نزوره لعلّه يدلّنا بما له من اتصال بالوحي وحصانة في الرأي على ضالّتنا. والتقيا باشموئيل عند دخولهما المدينة. ما أن تبادل اشموئيل وطالوت النظرات حتّى تعارف قلباهما، وعرف اشموئيل طالوت وأدرك أنّ هذا الشاب هو الذي أرسله الله ليقود الجماعة. وعندما انتهى طالوت من قصّته عن ضياع ماشيته، قال له اشموئيل: أمّا ماشيتك الضائعة فهي الآن على طريق القرية تتّجه إلى بستان أبيك فلا تقلق بشأنها. ولكني أدعوك لأمر أكبر من ذلك، إنّ الله قد أختارك لنجاة بني إسرائيل. فأصاب العجب طالوت من هذا الأمر في البداية، ولكنّه قَبل المهمّة مسروراً فقال اشموئيل لقومه: لقد اختار الله طالوت لقيادتكم، فعليكم جميعاً أن تطيعوه، وأن تتهيّأوا للجهاد ومحاربة الأعداء. كان بنو إسرائيل يعتقدون أنّ قائدهم يجب أن تتوفّر فيه بعض المميّزات من حيث نسبه وثروته، ممّا لم يجدوا منها شيئاً في طالوت، فانتابتهم حيرة شديدة لهذا الإختيار، فطالوت لم يكن من أَسرة لاوي التي ظهر منها الأنبياء، ولا كان من أسرتي يوسف أو يهودا اللتين سبق لهما الحكم، بل كان من أُسرة بنيامين المغمورة الفقيرة، فاعترضوا قائلين: كيف يمكن لطالوت أن يحكمنا، ونحن أحقّ منه بالحكم! فقال اشموئيل- الذي رآهم على خطأ كبير-: إنّ الله هو الذي اختاره أميراً عليكم، والقيادة تحتاج إلى كفاءة جسمية وروحية وهي متوفّرة في طالوت، وهو يفوقكم فيها. إِلاَّ أنّهم لم يقبلوا بهذا القول، وطلبوا دليلاً على أنّ هذا الإختيار إنّما كان من الله سبحانه. فقال اشموئيل: الدليل هو أنّ التابوت- صندوق العهد- الذي هو أثرٌ مهمٌّ من آثار أنبياء بني إسرائيل، وكان مدعاةً لثقتكم واطمئنانكم في الحروب، سيعود إليكم يحمله جمع من الملائكة. ولم يمض وقت طويل حتّى ظهر الصندوق، وعلى أثر رؤيته وافق بنو إسرائيل على قيادة طالوت لهم. طالوت في الحكم تسلّم طالوت قيادة الجيش، وخلال فتره قصيرة أثبت لياقته وجدارته للإضطلاع بمهامّ إدارة المُلك وقيادة الجيش، ثمّ طلب من بني إسرائيل أن يعدّوا العدّة لمحاربة عدوّ كان يهدّدهم من كلّ جانب. قال لهم مؤكّداً إنّه لا يريد أن يسير معه للقتال إلاَّ الّذين ينحصر كلّ تفكيرهم في الجهاد، أمّا الذين لهم عمارة لم تتم، أو معاملة لم تكمل، وأمثالهم، فليس لهم الإشتراك في الجهاد. وسرعان ما اجتمع حوله جمع تظهر عليه الكثرة والقوّة، وتحرّكوا صوب العدو. وفي المسيرة الطويلة وتحت أشعة الشمس المحرقة أصابهم العطش. فأراد طالوت- بأمر من الله- أن يختبرهم ويصفيهم، فقال لهم: سوف نصل قريباً إلى نهر في مسيرتنا، وأنّ الله يريد أن يمتحنكم به، فمن شرب منكم منه وارتوى فليس منّي، ومن لا يشرب إلاَّ قليلاً منه فهو منّي. ولكنّهم ما أن وقعت أنظارهم على النهر حتّى فرحوا وهرعوا إليه وشربوا منه حتّى ارتووا، إلاَّ نفرٌ قليلٌ منهم ظلّوا على العهد. أدرك طالوت أنّ أكثرية جيشه يتألّف من أُناس ضعفاء الإرادة وعديمي العهد، ما خلا بعض الأفراد المؤمنين، لذلك فقد تخلّى عن تلك الأكثرية واتّجه مع النفر المؤمن القليل خارجاً من المدينة إلى ميادين الجهاد. إلاَّ أنّ هذا الجيش الصغير انتابه القلق من قلّته، فقالوا لطالوت: إننا لا طاقة لنا بمقابلة جيش قويّ كثير العدد. غير أنّ الذين كان لهم إيمان راسخ بيوم القيامة، وكانت محبّة الله قد ملأت قلوبهم، لم يرهبوا كثرة العدوّ وقلّة عددهم، فخاطبوا طالوت بكلّ شجاعة قائلين: قرّر ما تراه صالحاً، فنحن معك حيثما ذهبت، ولسوف نجالدهم بهذا العدد القليل بحول الله وقوّته، ولطالما انتصر جيش صغير بعون الله على جيش كبير، والله مع الصابرين. فاستعدّ طالوت بجماعته القليلة المؤمنة للحرب، ودعوا الله أن يمنحهم الصبر والثبات، وعند التقاء الجيشين خرج جالوت من بين صفوف عسكره وطلب المبارزة بصوت قوي أثار الرعب في القلوب، فلم يجرأ أحد على منازلته. في تلك اللحظة خرج شابٌ اسمه داود من بين جنود طالوت، ولعلّه لصغر سنّه، لم يكن قد خاض حرباً من قبل، بل كان قد جاء إلى ميدان المعركة بأمر من أبيه ليكون بصحبة اخوته في صفوف جيش طالوت. ولكنّه كان سريع الحركة خفيفها، وبالمقلاع الذي كان بيده رمى جالوت بحجرين- بمهارة شديدة- فأصابا جبهته ورأسه، فسقط على الأرض ميّتاً وسط تعجّب جيشه ودهشتهم. وعلى أثر ذلك استولى الرعب والهلع على جيش جالوت، ولم يلبثوا حتّى ركنوا إلى الفرار من أمام جنود طالوت وانتصر بنو إسرائيل(2). التّفسير نعود إلى تفسير الآيات محلّ البحث في أوّل آية يخاطب الله تعالى نبيّه الكريم ويقول: (ألم تر إلى الملأ من بني إسرائيل من بعد موسى إذ قالوا لنبيّ لهم ابعث لنا ملكاً نقاتل في سبيل الله). (الملأ) هم الجماعة يجتمعون على رأي فيملأون العيون رواءً ومنظراً والنفوس بهاءً وجلالاً ولذلك يقال لأشراف كلّ قوم (الملأ) لأنّهم بما لهم من مقام ومنزلة يملأون العين. هذه الآية- كما قلنا- تشير إلى جماعة كبيرة من بني إسرائيل طلبوا بصوت واحد من نبيّهم أن يختار لهم أميراً وقائداً ليحاربوا بقيادته (جالوت) الّذي كان يُهدّد مجتمعهم ودينهم واقتصادهم بالخطر. وعلى الرّغم من أنّ الجماعة المذكورة كانت تريد أن تدفع العدو المعتدي الذي أخرجهم من أرضهم ويُعيدوا ما اُخذ منهم، فقد وُصفت تلك الحرب بأنّها في سبيل الله، وبهذا يتبيّن أنّ ما يُساعد على تحرّر النّاس وخلاصهم من الأسر ورفع الظّلم والعدوان يُعتبر في سبيل الله. وقد ذكر البعض أنّ اسم ذلك النبي هو (شمعون) وذكر آخرون بأنّه (إشموئيل) وبعضٌ (يوشع) ولكنّ المشهور بين المفسّرين أنّه (إشموئيل) إى إسماعيل بلغة العرب، وبهذا وردت رواية عن الإمام الباقر (عليه السلام) أيضاً(3). ولمّا كان نبيّهم يعرف فيهم الضعف والخوف قال لهم: يمكن أن يصدر إليكم الأمر للجهاد فلا تطيعون (قال هل عسيتم إن كتب عليكم القتال أن لا تقاتلوا). ولكنّهم قالوا: كيف يمكن أن نتملّص من محاربة العدو الذي أجلانا عن أوطاننا وفرّق بيننا وبين أبنائنا (قالوا وما لنا ألاَّ نقاتل في سبيل الله وقد اُخرجنا من ديارنا وأبناءنا) وبذلك أعلنوا وفاءهم وتمسّكهم بالعهد. ومع ذلك فإنّ هذا الجمع من بني إسرائيل لم يمنعهم اسم الله ولا أمره ولا الحفاظ على استقلالهم والدفاع عن وجودهم ولا تحرير أبناءهم من نقض العهد، ولذلك يقول القرآن مباشرة بعد ذلك: (فلمّا كُتب عليهم القتال تولّوا إلاَّ قليلاً منهم والله عليم بالظالمين). وذكر بعض المفسّرين أنّ عدّة من بقي مع طالوت (313 نفر) بعدد جيش الإسلام يوم بدر(4). ﴿أَلَمْ تَرَ إِلَى الْمَلإِ﴾ جماعة الأشراف ﴿مِن بَنِي إِسْرَائِيلَ﴾ من للتبعيض ﴿مِن بَعْدِ مُوسَى﴾ من للابتداء أي بعد وفاته ﴿إِذْ قَالُواْ لِنَبِيٍّ لَّهُمُ﴾ هو إسماعيل وقيل شمعون أو يوشع ﴿ابْعَثْ﴾ سل الله أن يبعث ﴿لَنَا مَلِكًا نُّقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللّهِ قَالَ هَلْ عَسَيْتُمْ إِن كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ أَلاَّ تُقَاتِلُواْ قَالُواْ وَمَا لَنَا أَلاَّ نُقَاتِلَ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَقَدْ أُخْرِجْنَا مِن دِيَارِنَا وَأَبْنَآئِنَا﴾ لأن جالوت والعمالقة كانوا يسكنون ساحل بحر الروم بين مصر وفلسطين فغلبوا على ديار بني إسرائيل وسبوا ذراريهم ﴿فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ تَوَلَّوْاْ إِلاَّ قَلِيلاً مِّنْهُمْ﴾ ثلاثمائة وثلاثة عشر عدد أهل بدر ﴿وَاللّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ﴾ في ترك القتال وعيد لهم.