لا يوجد اتصال بالانترنت !
ستتم اعادة المحاولة بعد 10 ثواني ...
جاري التحميل ...
وفي آخر آية يتوجَّه الخطاب إِلى الرّسول(ص) ويقول الله له: (واتل ما أوحي إِليك مِن كتاب ربّك). أي لا تُعِر أية أهمية إِلى أقوال الآخرين المخلوطة بالكذب والخرافة والوضع، يجب أن يكون اعتمادك في هذه الأُمور على الوحي الإِلهي فقط. لأنَّهُ لا يوجد شيء يستطيع أن يُغيِّر كلامه تعالى: (لا مبدَّل لكلماته). فكلام الله تعالى وعلمه ليس مِن سنخ علم الإِنسان الذي يخضع يومياً للتغيُّر والتبديل بسبب الإِكتشافات الجديدة والمعرفة الحديثة. لذلك لا يمكن الإِعتماد عليها والركون إِليها مائة في المائة، ولهذه الأسباب: (ولن تجد مِن دونه ملتحداً). "ملتحد" مُشتقّة مِن "لحد" على وزن "مهد" وهي الحفرة التي يميل وسطها إلى أحد الأطراف (كاللّحد الذي يحفر لقبر الإِنسان). ولهذا السبب يقال للمكان الذي يميل إِليه الإِنسان (ملتحد)، ثمّ استخدمت بعد ذلك بمعنى "ملجأ". ومِن المهم أن نلاحظ أنَّ الآيتين الأخيرتين بينتا إِحاطة علم الخالق جلَّوعلا بجميع كائنات الوجود، وذلك مِن خلال عِدَّة طرق. * في البداية تبيّن الآيات: أنَّ غيب السماوات والأرض مِن عنده، ولهذا فهو تعالى محيط بها جميعاً. * ثمّ تضيف: إِنَّهُ سميع وبصير لأقصى حد ولأبلغ غاية. * مرّة أُخرى تقول: إِنَّهُ الولي المطلق، وإِنَّهُ أعلم الجميع. * ثمّ تضيف مرّة أُخرى: لا يُشاركه أحد في حكمه حتى يتحدَّد علمه أو معرفته. * ثمّ تقول: لا يتغيَّر ولا يتبدّل علمه وكلامه. * وفي آخر جملة تقول الآية: أنّه تعالى هو الملجأ الوحيد في الوجود لا سواه نعلمه محيط بكُلِّ اللاجئين إليه سبحانهُ وتعالى. بحوث 1 - قصّة أصحاب الكهف في الرّوايات الإِسلامية هُناك روايات كثيرة في المصادر الإِسلامية حول أهل الكهف، ولكن بعضها لا يُعتمد عليها لضعف في سندها، والبعض الآخر تتضاد وتختلف فيما بينها. ومِن الرّوايات المختلفة اخترنا رواية علي بن إِبراهيم القمي التي ينقلها في تفسيره، وقد لاحظنا في هذه الرّواية أنّها الأفضل مِن حيث المتن والمضمون الذي يتناسق مع الآيات القرآنية. في رواية علي بن إِبراهيم عن الإِمام الصادق(ع) قال: "إِنَّ أصحاب الكهف والرقيم كانوا في زمن ملك جبّار عات، وكانَ يدعو أهل مملكته إلى عبادة الأصنام فمن لم يجبه قتله، وكانوا هؤلاء قوماً مؤمنين يعبدون الله عزَّ وجلّ، ووكل الملك بباب المدينة وكلاء ولم يدع أحداً يخرج حتى يسجد للأصنام، فخرج هؤلاء بعلة الصيد، وذلك أنّهم مرّوا براع في طريقهم فدعوه إلى أمرهم فلم يجبهم وكان مع الراعي كلب، فأجابهم الكلب وخرج معهم، فقال الصادق(ع): لا يدخل الجنة مِن البهائم إِلا ثلاثة حمار بلعم بن باعور، وذئب يوسف(ع) وكلب أصحاب الكهف. فخرج أصحاب الكهف مِن المدينة بعلّة الصيد هرباً مِن دين ذلك الملك، فلمّا أمسوا دخلوا إِلى ذلك الكهف، والكلب معهم فألقى الله عزَّوجلّ عليهم النعاس، كما قال الله تبارك وتعالى: (فضربنا على آذانهم في الكهف سنين عدداً) فناموا حتى أهلك الله عزَّوجلّ الملك وأهل مملكته وذهب ذلك الزمان، وجاء زمان آخر وقوم آخرون ثمّ انتبهوا، فقال بعضهم لبعض: كما نمنا ها هنا فنظروا إِلى الشمس قد ارتفعت فقالوا: نمنا يوماً أو بعض يوم. ثمّ قالوا لواحد مِنهم: خذ هذه الورق وادخل في المدينة مُتنكراً لا يعرفوك فاشتر لنا، فإِنّهم إن علموا بنا وعرفونا قتلونا أو ردّونا في دينهم، فجاء ذلك الرجل فرأى المدينة بخلاف الذي عهدها، ورأى قوماً بخلاف أُولئك لم يعرفهم ولم يعرفوا لغته، ولم يعرف لغتهم، فقالوا له: مِن أنت ومِن أين جئت، فأخبرهم فخرج ملك تلك المدينة مع أصحابه، والرجل معهم حتى وقفوا على باب الكهف، فأقبلوا يتطلعون فيه فقال بعضهم: هؤلاء ثلاثة ورابعهم كلبهم، وقال بعضهم: هم خمسة وسادسهم كلبهم، وقال بعضهم: هُم خمسة وسادسهم كلبهم، وقال بعضهم: هُم سبعة وثامنهم كلبهم، وحجبهم الله عزَّوجلّ بحجاب مِن الرعب فلم يكن أحد يقدم بالدخول عليهم غير صاحبهم فإِنَّهُ لمّا دخل عليهم وجدهم خائفين أن يكون أصحاب الملك "دقيانوس" شعروا بهم، فأخبرهم صاحبهم أنّهم كانوا نائمين هذا الزمن الطويل، وأنّهم آية للناس، فبكوا وسألوا الله تعالى أن يعيدهم إِلى مضاجعهم نائمين كما كانوا، ثمّ قالَ الملك: "ينبغي أن يُبنى هُنا مسجد ونزوره، فإِنَّ هؤلاء قوم مؤمنون". وهنا أضاف الإِمام(ع): فلهم في كل سنة نقلة، نقلتان، ينامون ستة أشهر على جنبهم الأيمن، وستة أشهر على جنبهم الأيسر، والكلب معهم قد بسط ذراعيه بفناء الكهف"(4). وفي رواية أُخرى عن الإِمام أمير المؤمنين علي بن أبي طالب(ع) ورد حديث مُفصَّل عن قصّة أصحاب الكهف مفاده ما يلي: لقد كان هؤلاء في الأصل ستة نفر اتّخذهم (ديقيانوس) وزراءه، فأقام ثلاثة عن يمينه وثلاثة عن يساره، واتّخذ لهم عيداً في كل سنة مَرَّة، فبينا هُم ذات يوم في عيد والبطارقة عن يمينه والهراقلة عن يساره، إِذ أتاه بطريق فأخبرهُ أنَّ عساكر الفرس قد غشيته، فاغتمَّ لذلك حتى سقط التاج عن رأسه، فنظر إِليه أحد الثلاثة الذين كانوا عن يمينه ويقال لهُ (تلميخا) فقالَ في نفسه: لو كان (ديقيانوس) إِلهاً كما يزعم إِذاً ما كانَ يغتم وما كان يبول ولا يتغوَّط، وما كان ينام، وليس هذا مِن فعل الإله. وقد كانَ هؤلاء الوزراء الستة يجتمعون كل يوم عندَ أحدهم، وكانوا ذلك اليوم عندَ (تلميخا) فاتّخذ لهم مِن طيِّب الطعام ثمّ قال لهم: يا إِخوتاه، قد وقع في قلبي شيء منعني الطعام والشراب والمنام. قالوا: وما ذاك يا تلميخا؟ قال: أطلت فكري في هذه السماء فقلت مَن رفع سقفها محفوظة بلا عمد ولا عُلاقة مِن فوقها، ومَن أجرى فيها شمساً وقمراً، آيتين مُبصرتين، ومن زيّنها بالنجوم! ثمّ أطلت الفكر في الأرض فقلت: مَن سطحها على صميم الماء الزخّار، ومَن حبسها بالجبال أن تميد على كل شيء؟ وأطلت فكري في نفسي من أخرجني جنيناً مِن بطن أُمي ومَن غذَّاني ومَن ربّاني؟ إِنَّ لها صانعاً ومدبراً غير (ديقيانوس الملك)، وما هو إِلاَّ ملك الملوك وجبّار السماوات. فانكب الفتية (الوزراء) على رجليه يُقبلونها وقالوا: بك هدانا الله تعالى مِن الضلالة إِلى الهدى فأشر علينا. وهنا وثب (تمليخا) فباعَ تمراً مِن حائط له بثلاثة آلاف درهم وصرَّها في ردائه وركبوا خيولهم وخرجوا مِن المدينة، فلما ساروا ثلاثة أميال قالَ لهم تمليخا: يا إِخوتاه جاءت مسكنة الآخرة وذهب ملك الدنيا، انزلوا عن خيولكم وامشوا على أرجلكم لعلَّ الله أن يجعل لكم مِن أمركم فرجاً ومخرجاً، فنزلوا عن خيولهم ومشوا على أرجلهم سبعة فراسخ في ذلك اليوم، فجعلت أرجلهم تقطر دماً. وهنا استقبلهم راع، فقالوا: يا أيّها الراعي هل مِن شربة لبن أو ماء؟ فقال الراعي: عندي ما تحبّون، ولكن أرى وجوهكم وجوه الملوك، وما أظنُّكم إِلاَّ هُرَّاباً مِن "ديقيانوس" الملك. قالوا: يا أيّها الراعي لا يحلّ لنا الكذب أفينجينا منك الصدق؟ فأخبروه بقصّتهم، فانكب الراعي على أرجلهم يقبلها ويقول: يا قوم لقد وقع في قلبي ما وقعَ في قلوبكم، ولكن أمهلوني حتى أردّ الأغنام على أربابها وألحق بكم، فتوقفوا له، فردَّ الأغنام، وأقبل يسعى يتبعهُ الكلب ... فنظر الفتية (الوزراء) إلى الكب وقال بعضهم: إِنّا نخاف أن يفضحنا بنباحه، فألحّوا عليه بالحجارة، فأنطق الله تعالى جلَّ ذكره، الكلب قائلا: ذروني حتى أحرسكم مِن عدوّكم. فلم يزل الراعي يسير بهم حتى علا بهم جبلا، فانحطَّ بهم على كهف يُقال لهُ (الوصيد) فإِذا بفناءالكهف عيون أشجار مثمرة فأكلوا مِن الثمر، وشربوا مِن الماء، وجنَّهُم الليل، فآووا إلى الكهف وربض الكلب على باب الكهف ومدَّ يديه عليه، فأوحى الله تعالى إلى ملك الموت بقبض أرواحهم. (فأنامهم الله نوماً طويلا وعميقاً)(5). وفيما يخص ديقيانوس قال بعض المفسّرين: إِنَّهُ كان امبراطور الروم وحكم مُنذ عام 249 - 251 ميلادي، وقد كانَ عدواً شديداً للمسيحيين، وكانَ يؤذيهم ويعذبهم، وذلك قبل اعتناق ملك الروم لدين المسيحية. 2 - أين كانَ الكهف؟ للمفسّرين والعلماء كلام كثير حول أصحاب الكهف، أين كانتَ مَنطقتهم؟ وأين يقع الكهف الذي مكثوا فيه؟ وهنا ينبغي أن نلاحظ أنَّهُ بالرغم مِن أنَّ العثور على المكان الدقيق لهذه الحادثة لا يؤثِّر كثيراً على أصل القصّة ودروسها التربوية وأهميتها التأريخية، وبالرغم مِن أنَّ هذه القصّة ليست الوحيدة التي نعرف أصلها ولا نعرف بعض جزئياتها وتفصيلاتها، إِلاَّ أنَّ معرفة محل الحادث يُساعدنا حتماً في فهم أكثر لخصوصيات هذه القصّة. على أيةِ حال هُناك قولان راجحان مِن بين الإِحتمالات الكثيرة المطروحة عن مكان الكهف، يمكن أن نجملهما بما يلي: أوّلا: إِنَّ هذه الحادثة وقعت في مدينة (أفسوس) وهذا الكهف كان يقع بالقرب مِنها. ويمكن في الوقت الحاضر مُشاهدة خرائب هذه المدينة بالقرب مِن مدينة (أزمير) التركية، وبالقرب مِن قرية (أياصولوك) في جبال (ينايرداغ) حيثُ يوجد كهف لا يبتعد كثيراً عن (أفسوس). إِنَّ هذا الكهف هو غار وسيع، ويقال بأنَّهُ يمكن في داخله مشاهدة آثار مئات القبور، ويعتقد الكثيرون بأنَّ هذا الغار هو غار أصحاب الكهف. وقد نقل من شاهد الكهف أنَّ فتحة الغار باتجاه الشمال الشرقي، وقد كان هذا الموقع سبباً في ترجيح شك بعض المفسّرين الكبار بِكونَ هذا المكان هو غير غار أصحاب الكهف، في حين أنَّ هذا الوضع يؤيد صحة الموضوع ويرجح كون الغار هو الكهف المقصود لأنَّ دلالة أن تكون الشمس عند الشروق على يمين الغار، وعند الغروب على يساره، هو أن تكون فتحة الغار باتجاه الشمال أو تميل قليلا نحو الشمال الشرقي. بالطبع لا يقلِّل مِن صحة الموضوع عدم وجود مسجد أو معبد إِلى جانبه، حيثُ يمكن أن تكون آثاره قد اندثرت بعد مرور حوالي (17) قرن على الحادث. ثانياً: يقع الغار بالقرب مِن (عمّان) عاصمة الأردن، وبالقرب مِن قرية تسمّى "رجيب". ويمكن مشاهدة آثار صومعة فوق الغار تعود - وُفقاً لبعض القرائن - إِلى القرن الخامس الميلادي، حيث تحوَّلت إلى مسجد ذي محراب ومئذنة بعد سيطرة المسلمين على ذلك المكان. 3 - الجوانب التربوية لقصّة أهل الكهف هذه القصّة التأريخية العجبية التي يذكرها القرآن خالية مِن أي خرافة أو وضع، وفيها العديد مِن الدروس التربوية البنّاءة، تماماً كما في قصص القرآن الأُخرى، وإِذا كُنّا قد أشرنا إلى هذه الدروس ضمن تفسير الآيات، فإِنّنا نرى مِن الضروري الآن أن نشير إِليها بشكل مجمل حتى نقترب أكثر مِن الهدف الأساس للقرآن، وفيما يلي أبرز هذه الدروس: أ: إِنَّ أول دروس هذه القصّة هو تحطيم حاجز التقليد، والإِبتعاد عن التلوّن بلون المجتمع الفاسد. فهؤلاء الفتية حافظوا - كما لاحظنا - على استقلالهم الفكري في قبال الأكثرية المنحرفة المحيطة بهم، وهذا الأمر أصبح سبباً في نجاتهم وتحرُّرهم. وينبغي للإِنسان أن يكون له تأثير بناء على مجتمعه لا أن يكون مسايراً له. ب: الهجرة مِن الأوساط المنحرفة درس آخر في هذه القصّة ذات العبر، فهم قد تركوا بيوتهم وحياتهم المرفَّهة المليئة بألوان النعم المادية، وتركوا مَناصبهم، ورضوا بأنواع الصعوبات وأشكال الحرمان - في الغار الذي كان يفتقد كل شيء - لكي يحفضوا إِيمانهم، ولا يكونوا من عوامل وأعوان جهاز الظلم والجور والكفر والشرك(6). ج: التقية بمعناها البنّاء درس آخر نستفيده مِن هذه القصّة، لقد كانوا يصرون على عدم اطّلاع أهل المدينة على حالهم وخبرهم، واحتاطوا ليبقى أمرهم وحالهم مخفياً، حتى لا يخسروا أنفسهم بدون سبب، وكي يتجنبوا أن يُجبروا على الرجوع إِلى المحيط المنحرف الذي تخلّصوا منهُ. ونحنُ نعرف أنَّ التقية لسيت سوى أن يتكتم الإِنسان على حقيقة أمره في الأماكن والمواقف التي لا يرتجي منها فائدة في ذكر الحقيقة، بل تكون سبباً للضرر. والتقية وقاية للنفس واحتفاظ بقوّة الإِنسان لوقت جهاد العدو حيث لا تقية(7). د: عدم وجود تفاوت بين الناس وهم في طريق الله، فالوزير كانَ إِلى جانب الراعي، بل كان الاثنان إلى جانب الكلب كان يقوم بالحراسة. وهذا درس آخر يتّضح مِن خلاله أنَّ إِمتيازات الدنيا المادية، والمناصب المُختلفة ليسَ لها أدنى نصيب أو تأثير على تصنيف الناس مِن أهل الحق وسالكية، إِذ الكل فيه سواء .. إِنَّ طريق الحق هو طريق التوحيد، وطريق التوحيد هو طرق وحدة جميع الناس. هـ : الإِمدادات الإِلهية العجيبة عند ظهور المشاكل، هي نتيجة أُخرى يجب الاعتبار بها، فقد رأينا كيف قامَ الخالق جلَّوعلا بإنامة أصحاب الكهف كل تلك المدّة الطويلة، مِن أجل إِنقاذهم مِن تلك الظروف الإِجتماعية الصعبة التي كانت تحيط بهم. وقد أيقضهم جلَّ وعلا في الوقت المناسب، أي في الوقت الذي أصبحوا رمزاً مِن رموز التوحيد، وقد رأينا - كشكل مِن أشكال العناية - كيف أنَّ الله تعالى حفظ أجسادهم خلال هذه المدَّة مِن تأثيرات الأحداث والعوامل المختلفة، وجعل مِن الرعب والخوف أُسلوباً للحفاظ عليهم في قبال أعدئهم. و: لقد تعلَّمنا مِن أصحاب الكهف قيمة (طهارة الطعام) حتى في أصعب الظروف وأدقّها، لأنَّ طعام الإِنسان لهُ آثار عميقة في روحه وفكره وقلبه، وعندما يختلط الطعام بالحرام والنجاسة، يبتعد الإِنسان عن طريق الله; طريق التقوى. ز: ضرورة الاعتماد على مشيئة الله وطلب العون مِن لطفه تعالى: وقول (إن شاء الله) في كل ما يتعلق بأُمور المستقبل .. درس آخر نتعلمه مِن قصّة أصحاب الكهف. ح: لقد رأينا أنَّ القرآن سمّاهم: بـ (الفتية) في حين أنّهم - طبقاً للرّوايات - لم يكونوا شباباً مِن حيث العمر، وإِذا عرفنا أنّهم كانوا في البداية وزراء الملك الجبار، يتأكد لنا أنّهم لم يكونوا صغاراً مِن حيث العمر. ولكن تسمية القرآن لهم بـ (الفتية) للدلالة على صفات الشهامة والرشد والطُهر والفتوة العفو والتسامح. ط: ضرورة النقاش المنطقي مع المعارضين درسٌ آخر نستفيده مِن قصّة أصحاب الكهف، حيثُ إِنّهم عندما أرادوا دحض الشرك الذي عليه مجتمعهم، ذكروا أدلة مَنطقية قرأنا نماذج لها في الآيات (15 - 16) مِن هذه السورة. إِنَّ أساس عمل جميع الأنبياء والقادة الإِلهيين مع أعدائهم ومعارضين يستند - في العادة - إِلى قاعدة الحوار المنطقي والنقاش الحر. أمّا استخدام القوة لأجل القضاء على الفتنة فهو أمرٌ يُلجأ إليه عندما تفشل الحجة في أداء وظيفتها، أو عندما يقوم الخصم بعرقلة النقاش المنطقي. ي: وأخيراً، فإِنَّ إمكانية المعاد الجسماني وعودة الناس إلى الحياة مرّة أُخرى عند البعث، يُعتبر عاشر وآخر درس نستفيدهُ مِن هذه القصّة، وسنقرأ عنهُ تفصيلا في بحوث قادمة إِن شاء الله تعالى. إِنّنا لا نستطيع القول بأنَّ الدروس التربوية في قصّة أصحاب الكهف تقتصر على ما ذكرناه، ولكنّا نعتقد أنَّهُ حتى لو كان هُناك درس واحد نستفيده مِن هذه القصة لكفانا ذلك، فكيف بِنا وأمامنا هذه الدروس الكثيرة؟! على أيةِ حال، إِنَّ هدف القرآن ليس قص القصص لغرض التسلية، بل بناء الناس المقاومين المؤمنين الشجعان الواعين، وأحد الطرق لذلك هو ذكر نماذج أصيلة مما حدث طوال التأريخ البشري المليء بالحوادث والمواقف. 4 - هل أنَّ قصّة أصحاب الكهف علمية؟ مِن المسلَّم به أنَّ قصّة أصحاب الكهف لم تكن مذكورة في أي مِن الكتب السماوية السابقة (سواء الكتب الأصلية أو المحرّفة الموجودة الآن) ويجب أن لا تذكر، لأنَّ الحادثة - طبقاً للتأريخ العام - كانت قد وقعت في القرون التي تلت ظهور المسيح عيسى(ع). إِنَّ حادثة أصحاب الكهف وقعت في زمان "دكيوس" (التي تُعرَّب بديقيانوس) حيثُ تعرّض المسيحيون في عصره إِلى تعذيب شديد. ويقول المؤرخون الأوربيون: إِنَّ هذه الحادثة وقعت في الفترة مِن 49 - 251 ميلادي، وبذلك يَرى هؤلاء المؤرخون أنَّ مدّة نوم أصحاب الكهف لم تستغرق سوى (157) سنة، ويطلقون عليهم لقب (النائمون السبعة لأفسوس) في حين أنّهم يُعرفون بيننا بأصحابِ الكهف(8). والآن لنتعرف أين تقع (أفسوس) هذه؟ وَمَن أوّل عالم كتب كتاباً عن قصّة هؤلاء السبعة النائمين؟ وفي أي قرن حصلَ ذلك؟ (أفسوس) أو (أفسس) بضم الألف والسين، هي واحدة مِن مدن آسيا الصغرى (تركيا الحالية التي هي جزء مِن مملكة الروم الشرقية القديمة) وتقع بالقرب مِن نهر (كاستر) وعلى بعد (40) ميلا تقريباً جنوب شرقي (أزمير) حيثُ كانت عاصمة الملك (الونى). وقد اشتهرت (أفسوس) بسبب معبدها الوثني المعروف بـ "أرطاميس" الذي يُعتبر أحد عجائب الدنيا السبع(9). ويقولون: إِنَّ قصة أصحاب الكهف شُرحت لأول مرّة في رسالة باللغة السريانية كتبها عالم مسيحي يسمى (جاك) الذي كان رئيساً للكنيسة السورية، وذلك في القرن الخامس الميلادي، ثمّ شخص آخر يسمّى "جوجويوس" بترجمة تلك الرسالة إلى اللاتينية وسمّها بـ "جلال الشهداء"(10). وهذا الامر يُبيِّن أنَّ الحادثة كانت معروفة بين المسيحيين قبل قرن أو قرنين مِن ظهور الإِسلام، وكانت الكنائس تهتم بها. بالطبع بعض أحداث هذه القصّة - مثل مدّة نوم أصحاب الكهف - تختلف عمّا ورد في المصادر الإِسلامية، فالقرآن يقول - وبصراحة - بأنَّ نومهم كان (309) سنة. مِن جانب ثان وطبقاً لما ينقلهُ ياقوت الحموي في معجم البلدان (المجلد الثّاني ص 806) وطبقاً لما ينقلهُ "ابن خردادبه" في كتاب "المسالك والممالك" (صفحة 106 - 110) وطبقاً - أيضاً - لما يقوله ابو ريحان البيروني في الصفحة (290) مِن كتاب "الآثار الباقية": إِنَّ مجموعة مِن السوّاح القدماء قد وجدوا غاراً في مدينة (آبس) فيه بعض الإجساد المتيبسة، وقد احتملوا أن هذه الآثار تتعلق بقصّة أصحاب الكهف. مِن سياق الآيات القرآنية في سورة الكهف، وأسباب النّزول المذكورة في المصادر الإِسلامية، نستفيد أنَّ الحادثة كانت أيضاً معروفة بين علماء اليهود، وأنّها كانت عندهم حادثة تأريخية مشهورة. وبذلك يتّضح - بدقة - أنَّ قصّة النوم الطويل لأصحاب الكهف وردت في المصادر التأريخية للأقوام المختلفة(11). وهنا قد يشك البعض في طول المدة التي قضاها أصحاب الكهف في نومهم، ويعتبر أنَّ ذلك لا ينطق مع المعايير العلمية، لذلك يضعها في قسم الأساطير والقصص الخرافية (!!) والذرائع التي يستند إليها هؤلاء هي: أوّلا: إِنَّ هذا العمر الطويل أمرٌ غير مألوف في حياة الأشخاص العاديين المستيقظين، فكيف يصح تصوره لناس نيام؟! ثانياً: إِذا اقتنعنا بهذا العمر الطويل بالنسبة للأشخاص العاديين الذين يُمارسون الحياة بشكل طبيعي، فإِنَّ ذلك غير ممكن بالنسبة للنائمين، لأنَّ هُناك مُشكلة الطعام والشراب، إِذ كيف يمكن للإِنسان أن يبقى طيلة هذه المدّة بدون طعام أو شراب، وإِذا افترضنا مثلا أنَّ الإِنسان يحتاج يومياً إلى كيلو غرام واحد مِن الطعام أو لتر واحد مِن الماء، فإِنَّ أصحاب الكهف كانوا بحاجة، أثناء نومهم، إلى (100) طن مِن الطعام و(100000) لتر مِن الماء، ومِن الطبيعي أنَّ الجسم لا يستطيع خزن كل هذه الأحجام والكميات مِن الماء والطعام. ثالثاً: إِذا تجاوزنا كل الأُمور السابقة، فسوف تكون أمامنا مُشكلة جديدة، وهي أن جسم الإِنسان لا يستطيع أن يبقى كل هذه الفترة الطويلة مِن دون أن تتأثَّر أجهزته وتتضرّر بأضرار فادحة. إِنَّ هذه الأُمور قد تبدو للوهلة الأُولى مانعاً مِن التصديق بقصّة أصحاب الكهف، في حين أنَّ الأمر ليسَ كذلك، إِذ يُمكن مُناقشة الأُمور السابقة وفقاً لما يلي: أوّلا: لا تعتبر قضية العمر الطويل قضية غير علمية، حيثُ أنّنا نعلم أنَّ طول عمر أي كائن حي ليسَ لها مِن الوجهة العلمية ميزان ثابت مِن حيث المدّة والعمر، بحيث يكون موت الكائن عندَ هذا الحد المُفترض أمراً حتمياً. بعبارة أُخرى: صحيح أنَّ الطاقة الجسمية للإِنسان مهمّا بلغت فهي محدودة ولا بدَّ أن تنتهي، إِلاّ أنّ هذا الكلام لا يعني أنَّ جسم الإِنسان - أو أي كائن حي آخر - ليست لهُ قابلية البقاء أكثر مِن المقدار المألوف والمتعارف عليه. أي إن المسألة ليست كالقوانين الطبيعية، فمثلا الماء يغلي في درجة حرارة (100) مئوية ويتجمد في درجة الصفر المئوي، فكذلك الإِنسان إذا وصل إلى عمر المائة سنة أو المائة وخمسين سنة فإِنَّ قلبه سيتوقف عن العمل. إِنَّ المسألة ليست على هذه الشاكلة، بل إنَّ ميزان طول عمر الكائنات الحية يرتبط ارتباطاً كبيراً بوضعهم المعيشي، فعندما تتغيَّر الظروف بالكامل تكون الموازين قابلة للتغيير هي الأُخرى. والدليل على ما نقول، هو أنّنا لم نَر أحداً مِن علماء العالم قد حدَّدَ ميزاناً معيناً لمعر الإِنسان، ومِن جانب ثان استطاعوا مِن خلال تجارب مختبرية مِن زيادة عمر بعض الكائنات إلى الضعفين، أو الثلاثة في بعض الأحيان، واستطاعوا في أحيان أُخرى أن يفعلوا ذلك بنسبة (12) مرّة أو أكثر قياساً للعمر المألوف. واليوم فإنَّ هؤلاء العلماء يأملون بأن الإِنسان يمكنهُ - في المستقبل ومع ظهور أساليب علمية جديدة - أن يعيش عدَّة أضعاف عمره الطبيعي. هذا فيما يخص أصل قضية طول العمر. ثانياً: أمّا فيما يخص الطعام والشراب أثناء فترة النوم الطويل، فنقول: إنَّ نوم أصحاب الكهف لو كان عادياً وطبيعياً فنستطيع عندها أن نقبل بالإِشكالات والإِعتراضات السابقة. أمّا مِن الوجهة العلمية فإنَّ الأصول العلمية تقول: إنَّ حاجة الجسم إلى الطاقة الغذائيه أثناء النوم أقل مِن حاجته إليها اليقظة، إلاَّ أنَّ الجسم مع ذلك لا يستطيع أن يدَّخر ما يلزمه مِن طاقة غذائية لنوم طويل كنوم أصحاب الكهف. وهنا ينبغى الإِلتفات إلى أنَّ هناك أنواعاً مِن النوم في عالم الطبيعة تكون فيها حاجة الجسم إلى الغذاء قليلة للغاية، كما في حالة السُبات مثلا. حالة السُبات: هناك العديد من الأحياء تنام في فصل الشتاء ويسمّى نومها علمياً بـ "السُبات". في هذا النوع مِن النوم تتوقف فعاليات الحياة تقريباً، وتكون بأضعف حالة. فالقلب يتوقف عن العمل تقريباً، وبعبارة أصح تكون ضرباته قليلة للغاية بحيث لا يمكن الإِحساس بها أبداً. في هذه الحالات يُمكن تشبيه الجسم بالفرن العظيم الذي لا تبقى فيه بعد انطفائه سوى شُعلة أو شمعة صغيرة دائبة الإِشت ﴿وَاتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِن كِتَابِ رَبِّكَ لَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ﴾ لا أحد يقدر على تبديلها ﴿وَلَن تَجِدَ مِن دُونِهِ مُلْتَحَدًا﴾ ملجأ.