التّفسير
جواب المؤمن:
هذه الآيات هي ردّ على ما نسجهُ من أوهام ذلك الغني المغرور العديم الإِيمان، نسمعها تجري على لسان صاحبه المؤمن.
لقد بدأ الكلام بعد أن ظلَّ صامتاً يستمع إلى كلام ذلك الرجل ذي الأفق الضيق والفكر المحدود، حتى ينتهي مِن كلامه، ثمّ قال له: (قالَ لهُ صاحبهُ وهو يحاوره أكفرت بالذي خلقك مِن تراب ثمّ مِن نطفة ثمّ سواك رجلا).
وهُنا قد يُثار هذا السؤال، وهو: إِنَّ كلام ذلك الرجل المغرور المتكبر الذي مرَّ ذكره في الآيات الآنفة، لم يصرّح فيه بإِنكار الحق جلَّ وعلا، في حين أنَّ جواب الإِنسان المؤمن ركزَّ فيه أوّلا على إِنكاره للخالق!؟ لذلك فإِنَّهُ وجَّه نظره أوّلا إلى قضية خلق الإِنسان التي هي من أبرز أدلة التوحيد والتوجّه نحو الخالق العالم القادر.
الله الذي خلق الإِنسان مِن تراب، حيثُ امتصت جذور الأشجار المواد الغذائية الموجودة في الأرض، والأشجار بدورها أصبحت طعاماً للحيوانات، والإِنسان إِستفاد مِن هذا النبات ولحم الحيوان، وانعقدت نطفته مِن هذه المواد، ثمّ سلكت النطفة طريق التكامل في رحم الأُم حتى تحوَّلت إلى إِنسان كامل، الإِنسان الذي هو أفضل مِن جميع موجودات الأرض، فهو يُفكِّر ويُصَمِّم ويُسَخِّر كلَّ شيء لأجله.
نعم، إِنَّ هذا التراب عديم الأهمية يتحوَّل إلى هذا الموجود العجيب، مع هذه الأجهزة المعقدة الموجودة في جسم الإِنسان وروحه، وهذا مِن الدلائل العظيمة على التوحيد.
وفي الجواب على السؤال المُثار ذكر المفسّرون تفاسير مُعتدَّدة نجملها فيما يلي:
1 - قالت مجموعة مِنهم: بما أنَّ هذا الرجل المغرور أنكر بصراحة المعاد والبعث أو شكَكَ فيه، فإِنَّهُ يلزم من ذلك إنكار الخالق، لأنَّ مُنكر المعاد الجسماني يُنكر في الواقع قدرة الله، ولا يصدّق بأنَّ هذا التُراب المتلاشي سوف تعود لهُ الحياة مرّة أُخرى، لذا فإِنَّ الرجل المؤمن مع ذكره للخلق الأوّل مِن تُراب، ثمّ من نطفة، ثمّ بإِشارته للمراحل الأُخرى - أراد أن يُلفت نظره إلى القدرة غير المتناهية للخالق حتى يعلم بأنَّ قضية المعاد يُمكن مشاهدتها هُنا وتمثَّلها بأعيننا في واقع هذه الأرض.
2 - وقال آخرون: إنَّ شركهُ وكفرهُ كانا بسبب ما رَآه لِنفسه مِن إستقلال في المالكية وما تصوره مِن دوام وأبدية هذه الملكية.
3 - الإِحتمال الثّالث أنّه لا يبعد أن يكون الرجل قد أنكر الخالق في بعض كلامه ولم يذكر القرآن هذا المقطع من كلامه.
وقد يتوضح الأمر بقرينة جواب الرجل المؤمن، لذا نرى في الآية التي بعدها أنَّ الرجل المؤمن قالَ لصاحب البستان ما مضمونه: إن كنت أنكرت وجود خالقك وسلكت طريق الشرك، إِلاَّ أنّني لا أفعل ذلك أبداً.
على أي حال، ثمّة علاقة واضحة تربط بين الإِحتمالات الثلاثة، ويُمكن أن يكون كلام الرجل المؤمن المُوَحِّد إشارة الى هذه الإِحتمالات جميعاً.
﴿قَالَ لَهُ صَاحِبُهُ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مِن تُرَابٍ﴾ لأنه مادة أصله آدم أو النطفة ﴿ثُمَّ مِن نُّطْفَةٍ﴾ نطفة مادته القريبة ﴿ثُمَّ سَوَّاكَ﴾ عدلك وكملك ﴿رَجُلًا﴾ إشارة إلى أن القادر على البدء أقدر على الإعادة.