ثمّ أنّ بني إسرائيل رضخوا لقيادة طالوت فصنع منهم جيوشاً كثيرة وساروا إلى القتال، وهنا تعرّض بني إسرائيل لإختبار عجيب، ومن الأفضل أن نجمع تلك الأحداث ومجريات الاُمور من القرآن نفسه حيث يقول: (فلمّا فصل طالوت بالجنود قال إنّ الله مبتليكم بنهر فمن شرب منه فليس منّي ومن لم يطعمه فإنّه منّي إلاّ من اغترف غرفة بيده)(6).
ويتّضح في هذه الموارد الإمتحان الكبير الذي تعرّض له بنو إسرائيل وهو المقاومة الشديدة للعطش، وكان هذا الإمتحان ضروريّاً لجيش طالوت وخاصّة مع السّوابق السيّئة لهذا الجيش في بعض الحروب السابقة، لأنّ الإنتصار يتوقّفعلى مقدار الإنضباط وقدرة الإيمان والإستقامةفي مقابل الأعداء والطّاعة لأوامر القيادة.
وطالوت الذي كان يتّجه بجنوده للجهاد، كان لابدّ له أن يعلم إلى أيّ مدى يمكن الإعتماد على طاعة هؤلاء الجنود، وعلى الأخصّ أُولئك الذين ارتضوه واستسلموا له على مضض متردّدين، ولكنّهم في الباطن كانت تراودهم الشكوك بالنسبة لإمرته، لذلك يؤمر طالوت أمراً إلهيّاً باختبارهم، فيخبرهم أنّهم سوف يصلون عمّا قريب إلى نهر، فعليهم أن يقاوموا عطشهم، وألاَّ يشربوا إلاَّ قليلاً، وبذلك يستطيع أن يعرف إن كان هؤلاء الذين يريدون أن يواجهوا سيوف الأعداء البتّارة يتحمّلون سويعات من العطش أم لا.
وشرب الأكثرية كما قلنا في سرد الحكاية، وكما جاء بايجاز في الآية.
وهكذا جرت التصفية الثانية في جيش طالوت.
وكانت التصفية الأُولى عندما نادى المنادي للإستعداد للحرب وطلب الجميع بالإشتراك في الجهاد إلاَّ الذين كانت لهم التزامات تجارية أو عمرانية أو نظائرها.
(فلمّا جاوَزه هو والذين آمنوا معه قالوا لا طاقة لنا اليوم بجالوتَ وجنودِه).
تفيد هذه الآية أنّ تلك القلّة التي نجحت في الإمتحان هي وحدها التي تحرّكت معه، ولكن عندما خطر لهؤلاء القلّة أنهم مقدمون على مواجهة جيش جرّار وقوي، ارتفعت أصواتهم بالتباكي على قلّة عددهم، وهكذا بدأت المرحلة الثالثة في التصفية.
(قال الذين يظُنّون أنّهم ملاقوا الله كم من فئة قليلة غلبت فئةً كثيرةً بإذن الله والله مع الصابرين)(7).
"الفئة" أصلاً من "الفيء" بمعنى الرجوع، ويقصد بها الجماعة الملتحمة التي يرجع بعضهم إلى بعض ليعضده.
تقول الآية: إنّ الذين كانوا يؤمنون بيوم القيامة إيماناً راسخاً قالوا للآخرين: ينبغي ألاَّ تلتفتوا إلى (الكم) بل إلى (الكيف) إذ كثيراً ما يحدث أنّ الجماعة الصغيرة المتحلّية بالإيمان والعزم والتصميم تغلب الجماعة الكبيرة بإذن الله.
ينبغي أن ننتبه إلى أنّ "يظنّون" هنا تعني يعلمون، أي أنّهم على يقين من قيام يوم القيامة، ولا يعني الظنّ هنا الإحتمال، وظنّ هذه تعني اليقين في كثير من الحالات، حتّى لو اعتبرناها بمعنى الإحتمال، فإنّها هنا تناسب المقام أيضاً، إذ في هذه الحالة يكون المعنى أنّ مجرّد احتمال قيام يوم القيامة يكفي، فكيف باليقين به حيث يحمل الإنسان على اتّخاذ قرار بالنسبة للأهداف الربّانية.
إنّ من يحتمل النجاح في حياته- في الزراعة أو التجارة أو الصناعة أو السياسة- يمضي في مسيرته بكلّ عزم وتصميم.
أمّا لماذا يطلق على يوم القيامة يوم لقاء الله، فذلك ما أوضحناه في الجزء الأول من هذا التفسير.
﴿فَلَمَّا فَصَلَ طَالُوتُ بِالْجُنُودِ﴾ انفصل بهم عن بلده ﴿قَالَ إِنَّ اللّهَ مُبْتَلِيكُم﴾ ممتحنكم ﴿بِنَهَرٍ فَمَن شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي﴾ من حزب الله ﴿وَمَن لَّمْ يَطْعَمْهُ﴾ لم يذقه ﴿فَإِنَّهُ مِنِّي إِلاَّ مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ﴾ استثناء من فمن شرب ﴿فَشَرِبُواْ مِنْهُ إِلاَّ قَلِيلاً مِّنْهُمْ﴾ إلا ثلاثمائة وثلاثة عشر رجلا منهم من اغترف ومنهم من لم يشرب والذين شربوا كانوا ستين ألفا ﴿فَلَمَّا جَاوَزَهُ هُوَ﴾ تخطى النهر طالوت ﴿وَالَّذِينَ آمَنُواْ مَعَهُ قَالُواْ﴾ قال الذين اغترفوا منه ﴿لاَ طَاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجَالُوتَ وَجُنودِهِ﴾ لكثرتهم وقوتهم ﴿قَالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ﴾ يتيقنون ﴿أَنَّهُم مُّلاَقُو اللّهِ﴾ وهم الذين لم يشربوا ﴿كَم مِّن فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللّهِ﴾ بأمره ونصره ﴿وَاللّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ﴾ بالنصر.