لا يوجد اتصال بالانترنت !
ستتم اعادة المحاولة بعد 10 ثواني ...
جاري التحميل ...
الآية التي بعدها تذكر وضع المال والثروة والقوة الإِنسانية اللذين يعتبران ركنين أساسيين في الحياة الدنيا، حيثُ تقول: (المال والبنون زينة الحياة الدنيا). إِنَّ هذه الآية - في الحقيقة - تُشير إلى أهم قسمين في رأسمال الحياة حيثُ ترتبط الإشياء الأُخرى بهما، إِنّها تشير إلى (القوّة الإِقتصادية) و (القوّة الإِنسانية) لأنَّ وجودهما ضروري لتحقيق أي هدف مادي، خاصّة في الأزمنة السابقة إِذ كان من يملك أبناء أكثر يعتبر نفسهُ أكثر قوة، لأنَّ الأبناءهم رُكن القوّة، وقد وجدنا في الآيات السابقة أنَّ صاحب البستان الغني كان يتباهى بأمواله وأعوانه على الآخرين ويقول: (أنا أكثر منك مالا وأعز نفراً). لذا فإِنّهم كانوا يعتمدون على "البنين" جمع (ابن) والمقصود به الولد الذكر، حيث كانوا يعتبرون الولد رأسمال القوّة الفعّالة للإِنسان، وبالطبع ليسَ للبنات نفس المركز أو المقام. المهم أنَّ (المال والبنون) بمثابة الورد والبراعم الموجودة على أغصان الشجر، إِنّها تزول بسرعة ولا تستمر طويلا، وإِذا لم تستثمر في طريق المسير إلى (الله) فلا يُكتب لها الخلود، ولا يكون لها أدنى اعتبار. ورأينا أنَّ أكثر الأموال ثباتاً ودواماً والمتمثلة في البستان والأرض الزراعية وعين الماء قد أبيدت خلال لحظات. وفيما يخص الأبناء; فبالإِضافة إلى أنَّ حياتهم وسلامتهم معرَّضة للخطر دائماً، فهم يكونون في بعض الأحيان أعداءً بدلا مِن أن يكونوا عوناً في إِجتياز المشاكل والصعوبات. ثمّ يُضيف القرآن: (والباقيات الصالحات خيرٌ عِندَ ربِّك ثواباً وخيرٌ أملا). بالرغم مِن أنَّ بعض المفسّرين أرادوا حصر مفهوم (الباقيات الصالحات) في دائرة خاصّة مِثل الصلوات الخمس أو ذكر: سبحان الله والحمد لله ولا إِله إِلاّ الله والله أكبر، وأمثال هذه الأُمور، إِلاَّ أنَّ الواضح أنَّ هذا التغيير هو مِن السعة بحيث يشمل كل فكره وقول وعمل صالح تدوم وتبقى آثاره وبركاته بين الأفراد والمجتمعات. فإِذا رأينا في بعض الرّوايات أنّ الباقيات الصالحات تفسّر بصلاة الليل، أو مودة أهل البيت(عليهم السلام)، فإِن الغرض مِن ذلك هو بيان المصداق البارز، وليسَ تحديد المفهوم ، خاصّة وإِن بعض هذه الرّوايات استخدمت فيها كلمة (من) التي تدل على التبعيض. فمثلا في رواية عن الإِمام الصادق(ع) أنَّهُ قال: "لا تستصغر مودّتنا فإِنّها مِن الباقيات الصالحات". وفي حديث آخر عن رسول الله(ص) نقرأ قوله: "لا تتركوا التسبيحات الأربع فإنّها مِن الباقيات الصالحات". وحتى الأموال المتزلزلة أو الأبناء الذين يكونون احياناً فتنة وإِختباراً، إذ استخدمت في مسير الله تبارك وتعالى فإِنّها ستكون من الباقيات الصالحات، لأنَّ الذات المقدسة الإِلهية ذات أبدية، فكل ما يرتبط بها ويسير نحوها سيكتب له البقاء والابدية. بحوث 1 - المغريات مرّة أُخرى توظّف الآيات أعلاه دور المثال في تجسيد المعاني واستيعابها. إِنَّ القرآن - من خلال مثل واحد - يعكس مجموعة مِن الحقائق العقلية التي قد يكون مِن الصعب دركها مِن قبل الكثير مِن الناس. يقول للناس: إِنَّ دورة حياة النبات وموته تتكرَّر أمّا أعينكم في كل سنة مرَّة، فإِذا كان عمر الإِنسان (60) سنة فإِنَّ هذا المشهد يتكرر أمامكم (60) مرَّة. إِذا ذهبتم في الربيع إلى الصحراء فستشاهدون تلك المناظر الجميلة والتي يدل كل ما فيها على الحياة، ولكن لو ذهبتم في الخريف إلى نفس تلك الأماكن فسوف ترون الموت ينشر أجنحته في كل مكان. إِنَّ مثل الإِنسان في حياته كمثل النبتة، فهو في يوم كان طفلا كالبرعم، ثمّ أصبح شاباً كالوردة المملوءة طراوة، ثمّ يُصبح كهلا ضعيفاً كالنبتة الذابلة اليابسة ذات الأوراق الصفراء، ثمّ إِنَّ عاصفة الموت تحصد هذا الإِنسان لينتشر بعد فترة تراب جسده المتهريء - بواسطة العواصف - إلى مُختلف الإِتجاهات والأماكن. ولكن قد تنتهي دورة الحياة بصورة غير طبيعية، بمعنى أنّها لا ترتقي إلى نهاية شوطها، إِذ مِن الممكن أن تنتهي في مُنتصف الشوط بواسطة صاعقة أو عاصفة كما في قوله تعالى في الآية (24) مِن سورة يونس: (إِنّما مثل الحياة الدنيا كماء أنزلناه مِن السماء فاختلطَ بهِ نبات الأرض مما يأكل الناس والأنعام حتى إِذا أخذت الأرض زخرفها وازينت وظنَّ أهلها أنّهم قادرون عليها أتاها أمرنا ليلا أو نهاراً فجعلناها حصيداً كأن لم تغن بالأمس). وفي بعض الأحيان لا تكون الحوادث سبباً لفناء الحياة في مُنتصف دورة الحياة، بل يستمر السير الطبيعي حتى النهاية، أي وصولا إلى مرحلة الذبول والتشتت والفناء كما أشارت إلى ذلك الآية التي نبحثها. في كل الأحوال تنتهي الحياة الدنيا - سواء في الطريق الطبيعي أو غير الطبيعي - إلى الفناء الذي يحل بساحة الإِنسان عاجلا أم آجلا. 2 - عوامل تحطيم الغرور قُلنا: إِنَّ الكثير مِن الناس عندما يحصلون على الإِمكانات المادية والمناصب يُصابون بالغرور، وهذا الغرور هو العدو اللدود لسعادة الإِنسان، وفي الآيات السابقة رأينا كيف أنَّ الغرور يؤدي إلى الشرك والكفر. ولأنَّ القرآن كتاب تربوي عظيم، فهو يستفيد مِن عدة طرق لتحطيم الغرور. ففي بعض الأحيان يجسِّد لنا أنَّ الفناء هو نهاية الثروات المادية كما في الآيات أعلاه. وفي أحيان أُخرى يُحذِّر مِن إِمكانية تحوُّل الثروات والاولاد إلى عدو للإِنسان (كما في الآية 55 مِن سورة التوبة). وفي مرّات يحذِّر الناس ويوقظ فيهم حسهم الوجداني، عندما يستعرض أمامهم عاقبة المغرورين في التأريخ مِن أمثال فرعون وقارون. وقد رأينا القرآن يعالج إِحساس الإنسان بالغرور مِن خلال تذكيره بماضيه، عندما كان نطفة عديمة الأهمية أو تراباً لا يُذكر، ثمّ يُجسِّد لهُ مستقبلهُ وما هو صائر إليه كي يعرف أنَّ الغرور بين حَدِّي الضعف هَذين يُعتبر عملا جنونياً (كما في الآية 6 مِن سورة الطارق، والآية 8 مِن سورة السجدة، والآية 38 مِن سورة القيامة). وبهذه الصورة حاول القرآن توظيف أي أُسلوب ووسيلة لمعالجة عوامل الغرور في شخصية الإِنسان، هذه الصفة الشيطانية التي هي مصدر الكثير مِن الجرائم في طول التأريخ. ولكن مِن المسلَّم به أنَّ المؤمنين الحقيقيين لا يُصابون بهذه الخصلة القبيحة عند الوصول إلى مَنصب أو ثروة، ليسَ هذا وحسب، بل ترى أنَّهُ لا يحدث أدنى تغيير في برنامج حياتهم، إِذ يعتبرون كل هذه الأُمور عبارة عن زينة عابرة، وبضاعة زائلة، ومصيرها إلى فناء عندما تهب أدنى عاصفة. ﴿الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا﴾ يتزين بهما ﴿وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ﴾ الطاعات لله الباقي ثوابها وفسرت بصلاة الخمس ومودة أهل البيت والتسبيحات الأربع ﴿خَيْرٌ عِندَ رَبِّكَ ثَوَابًا﴾ من المال والبنين ﴿وَخَيْرٌ أَمَلًا﴾ لنيل فاعلهما ما يأمله فيها.