التّفسير
الإنفاق من أهمّ أسباب النجاة يوم القيامة:
بعد أن تحدّثت الآيات السّابقة عن الاُمم الماضية وجهاد حكوماتها الإلهيّة والإختلافات الّتي حدثت بعد الأنبياء (عليهم السلام) تخاطب هذه الآية المسلمين وتشير إلى أحد الواجبات المهمّة عليهم الّتي تسبّب في تقوية بنيتهم الدّفاعيّة وتوحّد كلمتهم فتقول: (يا أيّها الّذين آمنوا أنفقوا ممّا رزقناكم).
جملة (ممّا رزقناكم) لها مفهوم واسع حيث يشمل الإنفاق الواجب والمستحب، وكذلك الإنفاق المعنوي كالتعليم وأمثال ذلك، ولكن مع الإلتفات إلى التهديد الوارد في ذيل الآية لايبعد أن يكون المراد به الإنفاق الواجب يعني الزكاة وأمثالها، مضافاً إلى أنّ الإنفاق الواجب هو الّذي يعزّز بيت المال ويقوّم كيان الحكومة، وبهذه المناسبة يشير تعبير (ممّا) أنّ هذا الإنفاق يكون بجزء من المال الّذي يملكه الشخص لا كلّه.
وقد رجّح المرحوم (الطبرسي) في مجمع البيان شموليّة الآية للإنفاق الواجب والمستحب، وذهب إلى أنّ ذيل الآية لا يُعتبر تهديداً، بل هو إخبار عن الحوادث المخوفة يوم القيامة(1).
ولكن مع ملاحظة آخر جملة في هذه الآية الّتي تقول إنّ الكافرين هم الظالمون يتضح أنّ ترك الإنفاق نوع من الكفر والظلم، وهذا لا يكون إلاّ في الإنفاق الواجب.
ثمّ تضيف الآية (من قبل أن يأتي يومٌ لا بيع فيه ولا خُلّة ولا شفاعة)(2).
عليكم أن تنفقوا ما دمتم اليوم قادرين على ذلك، لأنّ العالم الآخر الذي هو محلّ حصاد ما زرعتموه في الدنيا لن يتسنى لكم فيه أن تفعلوا شيئاً، فلا معاملات ولا صفقات تجارية تستطيعون بها أن تشتروا السعادة والخلاص من العقاب، ولا هذه الصداقات المادّية التي تكسبونها في الدنيا بأموالكم تنفعكم في شيء هناك، لأنّ أصدقاءكم أنفسهم يعانون نتائج أعمالهم ولا يدفعون من أنفسهم للآخرين، ولا تنفعكم شفاعة، لأنكم بتخلّفكم حتّى عن الإنفاق الواجب لم تفعلوا ما هو جدير بأن يشفع لكم.
وعليه فإنّ جميع أبواب النجاة مسدودة بوجوهكم.
(والكافرون هم الظالمون) لأنهم بتركهم الإنفاق والزكاة يظلمون أنفسهم ويظلمون الناس.
ويريد القرآن في هذه الآية أن يوضّح ما يلي:
أولاً: إنّ الكافرين يظلمون أنفسهم، فبتركهم الإنفاق الواجب وسائر التكاليف الدينية والإنسانية حرموا أنفسهم من أعظم السعادات، وأنّ أعمالهم هذه هي التي تثقل كواهلهم في العالم الآخر، لذلك فإنّ الله لم يظلمهم أبداً.
ثانياً: يظلم الكافرون أفراد مجتمعهم أيضاً، لأنّ الكفر منبع القسوة وتحجّر القلب والتمسّك بالمادة وعبادة الدنيا، وهذه كلّها من مصادر الظلم، لابدّ من الإشارة هنا إلى أنّ الكفر في الآية يعني التمرّد والعصيان والتخلّف عن إطاعة أمر الله لورود الكلمة بعد الأمر بالإنفاق.
واستعمال الكفر بهذا المعنى شائع في القرآن وغيره من النصوص الإسلامية.
﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَنفِقُواْ مِمَّا رَزَقْنَاكُم مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَ يَوْمٌ﴾ الموت ﴿لاَّ بَيْعٌ فِيهِ﴾ فينتفع به ﴿وَلاَ خُلَّةٌ﴾ فيسامح لأجلها ﴿وَلاَ شَفَاعَةٌ﴾ إلا لمن أذن له الرحمن حتى تتكلوا على شفيع يشفع لكم ﴿وَالْكَافِرُونَ﴾ أي التاركون للزكاة عبر عنهم به تغليظا ﴿هُمُ الظَّالِمُونَ﴾ لأنفسهم.