لا يوجد اتصال بالانترنت !
ستتم اعادة المحاولة بعد 10 ثواني ...
جاري التحميل ...
لقد كان عمل ذي القرنين عظيماً ومهماً، وكانَ لهُ وفقاً لمنطق المستكبرين ونهجهم أن يتباهى بهِ أو يمنّ به، إِلاَّ أنَّهُ قال بأدب كامل: (قال هذا رحمة مِن ربّي)لأنَّ أخلاقهُ كانت أخلاقاً إِلهية. إِنَّهُ أراد أن يقول: إِذا كنت أملك العلم والمعرفة وأستطيع بواسطتهما أن أخطو خطوات مهمّة، فإِنَّ كل ذلك إِنما كانَ مِن قبل الخالق جلَّ وعلا، وإِذا كُنت أملك قابلية الكلام والحديث المؤثِّر فذلك أيضاً مِن الخالق جلَّ وعلا. وإِذا كانت مثل هذه الوسائل والأفكار في اختياري فإِنَّ ذلك مِن بركة الله ورحمته الخالق الواسعة. أراد ذو القرنين أن يقول: إِنّني لا أملك شيئاً مِن عندي كي أفتخر به، ولم أعمل عملا مهماً كي أَمُنّ على عباد الله. ثمّ استطرد قائلا: لا تظنوا أنَّ هذا السد سيكون أبدياً وخالداً: (فإِذا جاء وعد ربّي جعلهُ دكاء). (وكان وعد ربّي حقّاً). لقد أشار ذو القرنين في كلامه هذا إِلى قضية فناء الدنيا وتحطِّم هيكل نظام الوجود فيها عند البعث. لكن بعض المفسّرين اعتبر الوعد الإِلهي إشارة إِلى التقدم العلمي للبشر والذي بواسطته لا يبقى معنىً لسد غير قابل للإِختراق والعبور، فالطائرات وما شابهها تستطيع أن تعبر جميع هذه الموانع. ولكن هذا التّفسير بعيد حسب الظاهر. بحوث أوّلاً - الملاحظات التربوية في هذه القصة التأريخية سنبحث فيما بعد - إِن شاء الله - ما يتعلق بذي القرنين; مَن هو؟ وكيف تمّ سفره للشرق والغرب; وأين كان السد الذي أنشأه؟ وغير ذلك، ولكن بصرف النظر عن الجونب التأريخية، فإِنَّ القصّة بشكل عام تحوي على دروس تربوية كثيرة من الضروري الإِلتفات إِليها والإِفادة مِنها، وفي الواقع أنّها هي الهدف القرآني مِن إيرادها. ويمكن تلخيص هذه الدروس بالشكل الآتي: 1 - إِنَّ أوّل درس تعلمنا إِيَّاه أنَّ عمل هذه الدنيا لا يتمّ دون توفير أسبابه، لذا فإِنَّ الله تبارك وتعالى وهَب الوسائل والأسباب لتقدم وانتصار ذي القرنين في علمه: (وآتيناه مِن كلّ شي سبباً). وفي نفس الوقت استفاد "ذو القرنين" مِن هذه الأسباب والوسائل بأفضل وجه ممكن: (فأتبع سبباً). لذلك فإِنَّ مَن يظن أنَّهُ سيحصل على النصر مِن دون تهيئة أسبابه ومقدماته، فإِنَّهُ لا يصل إِلى مرامه حتى لو كان ذا القرنين نفسه! 2 - بالرغم مِن أنَّ غروب الشمس في عين من ماء آسن سببهُ خطأ في الباصرة واشتباه مِنها، إِلاَّ أنَّ المعنى الذي نلمحهُ مِن هذا المثال هو إِمكان تغطية الشمس مع عظمتها بالعين الآسنة ومثلها في ذلك مثل ذلك الإِنسان العظيم الذي يسقط وينهار بسبب خطأ واحد فتغرب شخصيته من انظار الناس. 3 - لا تستطيع أي حكومة أن تنتصر بدون ترغيب الأنصار والأتباع، ومعاقبة المذنبين والمخطئين، وهذا هو نفس الأساس الذي اعتمد عليه ذو القرنين حيثُ قال: (قالَ أمّا مَن ظلم فسوف نعذّبه ... وأمّا مَن آمن وعمل صالحاً فلهُ جزاء الحسنى). والإِمام أمير المؤمنين علي(ع) بلور هذا المعنى في رسالته إِلى مالك الأشتر والتي هي برنامج كامل لإِدارة البلاد، إِذ يقول(ع): "ولا يكونن المحسن والمسيىء عندك بمنزلة سواء، فإِنَّ في ذلك تزهيداً لأهل الإِحسان في الإِحسان، وتدريباً لأهلِ الإِساءة على الإساءة"(2). 4 - التكليف الشاق والتصعُّب في الأُمور وتحميل الناس ما لا يطيقون، كل هذه الأُمور لا تناسب الحكومة الإِلهية العادلة أبداً، ولهذا السبب فإِنَّ ذا القرنين بعد أن صرّح بمعاقبة الظالمين وتشويق الصالحين، أضاف: (وسنقول لهُ مِن أمرنا يُسراً) حتى يمكن إِنجاز الأعمال عن شوق ورغبة. 5 - الحكومة الكبيرة ذات الإِمكانات الواسعة لا تتغاضى عن التفاوت والإِختلاف القائم في حياة الناس وتُراعى شرائط حياتهم المُختلفة، ولهذا السبب فإِنَّ "ذو القرنين" صاحب الحكومة الإِلهية والذي واجهته أقوام مُختلفة، كانَ يتعامل معَ كل مجموعة بما يُناسب حياتها الخاصّة، وبذلك كان الجميع منضوين تحت لوائه. 6 - إِنَّ "ذو القرنين" لم يستبعد حتى تلك المجموعة التي لم تكن تفهم الكلام، أو كما وصفهم القرآن: (لا يكادون يفقهون قولا) بل إِنَّهُ استمع إِلى مشاكلهم، ودأب على رفع احتياجاتهم بأي أُسلوب كان، وبنى لهم سداً محكماً بينهم وبين أعدائهم اللدودين (يأجوج ومأجوج) وقد قام بإِنجاز أُمورهم بدون أن يفرّق بينهم (رغم أنَّهُ كان يظهر أنَّ مثل هؤلاء الناس عديمي الفهم لا ينفعون الحكومة بأي شيء). وفي حديث عن الإِمام الصادق(ع) نقرأ قوله: "إسماع الأصم مِن غير تصعرُّ صدقة هنيئة"(3). 7 - الأمن هو أوّل وأهم شرط مِن شروط الحياة الإِجتماعية السالمة، لهذا السبب تحمَّل "ذو القرنين" أصعب الأعمال وأشقها لتأمين أمن القوم مِن أعدائهم، وقد استفاد مِن أقوى السدود وأمنعها الذي أصبح مضرب الأمثال في التأريخ ورمزاً للإِستحكام والدوام والبقاء، حيث يقال لبناء القوي "إِنّه مثل سدّ الاسكندر" بالرغم من أن "ذو القرنين" غير الاسكندر. وعادةً لا يسعد المجتمع مِن دون قطع الطريق على المفسدين، ولهذا فإِنَّ أوّل شيء طلبهُ إِبراهيم(ع) عند بناء الكعبة هو الأمن: (ربّ اجعل هذا البلد آمناً)(4). ولهذا السبب أيضاً فإِنَّ الفقه الإِسلامي وضع أقسى العقوبات للذين يعرضون أمن المجتمع إِلى الخطر (راجع في ذلك تفسير الآية (33) مِن سورة المائدة). 8 - الدرس الآخر الذي يمكن أن نتعلمهُ مِن هذه القصّة، هو أنَّ أصحاب المشكلة الأصليين معنيين بالدرجة الأُولى في الإِشتراك في الجهد المبذول لحل مُشكلتهم، لذا فإِنَّ "ذو القرنين" أعطى أمراً إِلى الفئة التي اشتكت إِليه أمر يأجوج ومأجوج بأن يجلبوا قطع الحديد، ثمّ أعطاهم الأمر بإِشعال النار في أطراف السد لدمج القطع فيما بينها، ثمّ أمرهم بتهيئة النحاس المذاب. وعادة فإن العمل الذي يتمّ بمساهمة وحضور الأطراف الأصليين في المشكلة يؤدي إِلى إِظهار استعداداتهم ويعطي قيمة خاصّة للنتائج الحاصلة منه، وللجهود المبذولة فيه، ومِن ثمّ يحرص الجميع للحفاظ عليه وإِدامته بحكم تحملهم لمجهودات إِنشائه. كما يتّضح من هذه النقطة أن،َ المجتمع المتخلف والمتأخّر يستطيع أن يُنجز أعمالا مهمّة وعظيمة اذا تمتع ببرنامج صحيح وإِدارة مُخلصة. 9 - الزعيم الإِلهي والقائد الرّباني لا يلتفت إِلى الجزاء المادي والنفع المالي وإِنّما يقتنع بما حباه الله، لذا رأينا "ذو القرنين" عندما اقترحوا عليه الأموال قال: (ما مكّني فيه ربّي خير) وهذا النمط مِن السلوك يخالف أساليب السلاطين وولعهم العجيب بجمع الثروة والأموال. وفي القرآن الكريم نقرأ مراراً في قصص الأنبياء أنّهم لم يكونوا يطلبون المال جزاءً لأعمالهم ودعواتهم. ويمكن مُشاهدة هذاالموضوع في (11) مورداً مِن القرآن الكريم، سواء ما يخص نبي الإِسلام(ص) أو الأنبياء السابقين، ففي بعض الأحيان يذكر القرآن تعبير: (إِنّما أجري على الله). وفي أحيان أُخرى يضع القرآن محبّة أهل البيت(عليهم السلام)والذين هم ركن القيادة المستقبلية أساساً للجزاء فيقول: (قل لا أسئلكم عليه أجراً إِلاَّ المودّة في القربى). 10 - إِحكام الأُمور هو درسٌ آخر نستفيده مِن هذه القصّة، فذو القرنين استفاد مِن القطع الحديدية الكبرىْ في بناء السد، وقد وصلها بالنّار، ثمّ غطّاها بالنحاس المذاب كي تمتنع عن التلف والصدأ إِذا تعرضت للهواء والرطوبة. 11 - مهما كان الإِنسان قوياً ومُتمكناً وصاحب قدرة واستطاعة في إِنجاز الأعمال، فعلية، أن لا يغتر بنفسه، وهذا هو درسٌ آخر نتعلمهُ مِن قصة "ذو القرنين". فقد اعتمد في جميع شؤونه على قدرة الخالق جلَّ وعلا، وقالَ بعد اتمام السد: (هذا رحمة مِن ربّي). وعندما اقترحوا عليه المساعدة المالية قال: (ما مكنّي فيه ربّي خير). وأخيراً عندما يتحدث عن فناء هذا السد المحكم، فإِنَّهُ لا ينسى أن ينسب موعد ذلك إِلى الله تعالى. 12 - كل شي إِلى زوال مهما كان محكماً وصلداً. هذا هو الدرس الأخير في هذه القصة، وهو درس للذين يتمنون أو يظنون خلود المال أو المنصب والجاه. إِنَّ سد ذي القرنين أمر هيِّن قياساً إِلى انطفاء الشمس وفناء الجبال الراسيات، إِذا فكيف بالإِنسان المعرَّض للأضرار أكثر من غيره!؟ ألا يكفي التفكير بهذه الحقائق حافزاً على الوقوف بوجه الإِستبداد؟ ثانياً: مَن هو ذو القرنين؟ ذكر المفسّرون كلاماً كثيراً عن شخصية ذي القرنين الوارد في القرآن الكريم، فمن هو؟ وعلى أي واحد من الشخصيات التأريخية المعروفة تنطبق أوصافه ويمكن أن نرجع الآراء إِلى ثلاث نظريات أساسية هي: النظرية الأُولى: يرى البعض أنَّ "ذو القرنين" ليسَ سوى "الإسكندر المقدوني"، لذا فإنّهم يسمونه "الاسكندر ذو القرنين" ويعتقد هؤلاء بأنَّهُ سيطر بعد وفاة أبيه على دول الروم والمغرب والمصر، وبنى مدينة الإسكندرية، ثمّ سيطر بعد ذلك على الشام وبيت المقدس، ثمّ ذهب مِن هناك إِلى "أرمينيا"، وفتح العراق وبلاد فارس، ثمّ قصد الهند والصين، ومِن هناك رجع إِلى خُراسان، وقد بنى مدناً كثيرة، ثمّ جاءَ إِلى العراق ومَرِضَ في مدينة "زور" وتوفي فيها. ويقول البعض: إِنَّهُ لم يُعمِّر أكثر مِن (36) سنة، أمّا جسده فقد ذهبوا بهِ إِلى الإِسكندرية ودفنوه هناك(5). النظرية الثّانية: ويرى جمع مِن المؤرخين أنَّ "ذو القرنين" كان أحد ملوك اليمن (كان ملوك اليمن يسمّون بـ "تبّع" وجمع ذلك "تبابعه") وقد دافع عن هذه النظرية "الأصمعي" في تأريخ العرب قبل الإِسلام، و"ابن هشام" في تأريخه المعروف بسيرة ابن هشام، و"أبوريحان البيروني" في كتاب "الآثار الباقية". ويمكن لنا أن نلمح في شعر شعراء (الحميرية) وهم مِن أقوام اليمن، وبعضاً مِن شعراء الجاهلية تفاخراً بكونِ "ذو القرنين" مِن قومهم(6). وفقاً لهذه النظرية يكون سد ذو القرنين هو سد "مأرب" المعروف. النظرية الثّالثة: وهي أحدث النظريات في هذا المجال وردت عن المفكر الإِسلامي المعروف (أبو الكلام آزاد) الذي شغل يوماً منصب وزير الثقافة في الهند. وقد أورد رأيه في كتاب حققه في هذا المجال. وطبقاً لهذه النظريه فإِنَّ ذا القرنين هو نفسه (كورش الكبير) الملك الأخميني. أمّا النظريتان الأُولى والثّانية فإِنّها لا تدعمها أدلة قوية، ومضافاً إِلى ذلك فإِنّ صفات الإِسكندر المقدوني أو ملوك اليمن لا تنطبق مع الصفات الذي ذكرها القرآن لذي القرنين. مِن ناحية ثالثة فإِنَّ الإِسكندر لم يبنَ سداً معروفاً. أمّا سد مأرب في اليمن فإِنَّهُ لا يتطابق مع الصفات الواردة في سدّ "ذو القرنين". الذي بُني مِن الحديد والنحاس، وقد أُنشىء لصد هجوم الأقوام الهمجية، في حين أنَّ سد مأرب مُكَوَّن مِن المواد العادية، ووظيفته خزن المياه ومنعها مِن الطغيان والفيضان، وقد ذكر القرآن شرحاً لذلك في سورة "سبأ". لكل هذه الأسباب سنركز البحث على النظرية الثّالثة، ونرى مِن الضروري - هنا - الإِنتباه بدقة إلى الأُمور التالية: أ: لماذا سمي ذو القرنين بهذا الإِسم؟ البعض يعتقد أن سبب التسمية تعود إِلى وصوله للشرق والغرب، حيثُ يعبَّر العرب عن ذلك بقرني الشمس. البعض الآخر يرى بأنَّهُ عاش قرنين أو أنَّهُ حَكَمَ قرنين، وأمّا ما مقدار القرن فهناك آراء مُختلفة في ذلك. البعض الثّالث يقول: كان يوجد على طَرَفي رأسه بروز (قرن)، ولهذا السبب سَمَّي بذي القرنين. وأخيراً فإِنَّ البعض يعتقد بأنَّ تاجهُ الخاص كان يحتوي على قرنين. بالطبع هناك آراء آخرى في ذلك، إِلاَّ أنَّ ذكرها جميعاً يُطيل بنا المقام; وسوف نرى أنَّ مِبتكر النظرية الثّالثة (أبو الكلام آزاد) استفاد كثيراً مِن هذا اللقب لإِثبات نظريته. ب: لو لاحظنا بدقة مِن آيات القرآن الكريم لاستفدنا أنَّ ذا القرنين كانت لهُ صفات ممتازة هي: * هيّأَ لهُ الله جلَّ وعلا أسباب القوّة ومقدمات الإِنتصار، وجعلها تحت تصرفه وفي متناول يده. * لقد جهز ثلاثة جيوش مهمّة: الأوّل إِلى الغرب، والثّاني إِلى الشرق; والثّالث إِلى المنطقة التي تضم المضيق الجبلي، وفي كل هذه الأسفار كان لهُ تعامل خاص معَ الأقوام المختلفة حيث ورد تفصيل ذلك في الآيات السابقة. * كان رجلا مؤمناً تتجلى فيه صفات التوحيد والعطف، ولم ينحرف عن طريق العدل، ولهذا السبب فقد شملهُ اللطف الإِلهي الخاص، إِذ كان ناصراً للمحسنين وعدوّاً للظالمين، ولم يكن يرغب أو يطمع بمال الدنيا كثيراً. * كان مؤمناً بالله وباليوم الآخر. * لقد صنع واحداً مِن أهم وأقوى السدود، السد الذي استفاد لصنعه مِن الحديد والنحاس بدلا مِن الطابوق والحجارة. (وإِذا كانت هناك مواد أُخرى مستخدمة فيه، فهي لا يعتبر شيئاً بالقياس الى الحديد والنحاس) أمّا هدفه مِن بنائه فقد تمثل في مساعدة المستضعفين في قبال ظلم يأجوج ومأجوج. * كان شخصاً مشهوراً بين مجموعة مِن الناس، وذلك قبل نزول القرآن، لذا فإِنَّ قريش أو اليهود سألوا رسول الله(ص) عنه، كما يصرح بذلك الكتاب العزيز في قوله تعالى: (يسئلونك عن ذي القرنين). ولا يمكن الإِستفادة بشيء مِن صريح القرآن للدلالة على أنَّهُ كان نبيّاً، بالرغم مِن وجود تعابير تُشعِر بهذا المعنى، كما مرَّ ذلك في تفسير الآيات السابقة. ونقرأ في العديد مِن الرّوايات الإِسلامية الواردة عن الرّسول(ص) وأئمّة أهل البيت(عليهم السلام) أنَّهُ: "لم يكن نبيّاً بل عبداً صالحاً"(7). ج: أساس القول في النظرية الثّالثة (في أنَّ ذا القرنين هو كورش الكبير) قائم على أصلين وهما: الأصل الأوّل: وفق العديد مِن الرّوايات الواردة في سبب نزول هذه الآيات فإِنَّ الذي سأل عن "ذو القرنين" هم قوم مِن اليهود، أو أنَّ قريشاً قامت بالأمر بتحريض مِن اليهود، لذا يجب العثور على أصل هذا الموضوع في كتاب اليهود. وَمِن الكتب المعروفة عند اليهود، هو كتاب "دانيال" حيث نقرأ في الفصل الثامن مِنهُ، ما يلي: "حينما ملك (بل شصّر) عُرضت لي وأنا دانيال رؤيا بعد الرؤيا الأُولى التي شاهدتها، وذلك حينما كنت أسكن قصر (شوشان) في بلاد (عيلام) فقد رأيت وأنا في المنام بأنّي على مقربة مِن نهر (أولاي) وأن كبشاً يقف قرب النهر وكان لهُ قرنان طويلان، ووجدتهُ يضرب بقرنيه غرباً وشمالا وجنوباً، ولم يتقدم أحد أمامه، ولأنَّهُ لم يكن يوجد أحد أمامه، لذا فإِنَّهُ كان يتصرف وفقاً لما يرديد، وكان يكبر"(8). وبعد ذلك نقل عن دانيال في هذا الكتاب قوله: "وقد تجلّى لهُ جبرائيل (أي لدانيال) وفسَّر منامه هكذا: إِنَّ الكبش ذا القرنين الذي رأيتهُ فإِنَّهُ مِن ملوك المدائن وفارس (أو ملوك ماد وفارس). لقد استبشر اليهود مِن رؤيا دانيال وعلموا بأنَّ فترة عبوديتهم ستنتهي مِن قبضة البابليين. ولم تمض مُدَّة طويلة حتى ظهر (كورش) على مسرح الحكم في إِيران ووحَّد بلاد (ماد وفارس) وشكَّل مِنهما مملكة كبيرة; وكما قالَ دانيال، فإِنَّ الكبش كان يضرب بقرنه الغرب والشرق، فإِنَّ كورش قامَ بالفتوحات الكبيرة في الجهات الثلاث، وحرَّر اليهود وسمح لهم بالعودة إِلى فلسطين. والطريف ما نقرؤه في التوراة في كتاب "أشعيا" فصل (44) رقم (28): "ثمّ يقول بخصوص كورش: إِنَّهُ كانَ راعياً عِندي (أي عند الرب) وسيقوم بتنفيذ مشيئتي". يجب الإنتباه إِلى أنَّ وصف كورش ورد في بعض تعبيرات التوراة على أنَّهُ "عقاب المشرق" والرجل المدبَّر الذي يأتي مِن مكان بعيد. (كتاب أشعيا فصل 46 رقم 11). الأصل الثّاني: لقد تمَّ العثور في القرن التاسع عشر الميلادي على تمثال لكورش في طول إِنسان تقريباً، وذلك بالقرب مِن مدينة "اصطخر" بجوار نهر "المرغاب" ويظهر مِن هذا التمثال أنَّ لكورش جناحين مِن الجانبين يشبهان جناح العقاب، وعلى رأسه تاج يُشاهد فيه قرنان يشبهان قرنا الكبش. فضلا عمّا يطويه هذا التمثال مِن نموذج قيِّم لفن النحت القديم، فقد جلب انتباه العلماء، حتى أنَّ مجموعة مِن العلماء الألمان سافروا إِلى إِيران لأجل رؤيته فقط. عند تطبيق ما ورد في التوراة على مواصفات التمثال تبلور في ذهن العلاّمة (أبو الكلام آزاد) احتمال في وجود اشتراك بين "ذو القرنين" وكورش، وأنَّ الأخير لم يكن سوى "ذو القرنين" نفسه. فتمثال كورش لهُ جناحان كجناحَىْ العُقاب، وهكذا توضحت شخصية "ذو القرنين" التأريخية لمجموعة مِن العلماء. وممّا يؤيِّر هذه النظرية الأوصاف الأخلاقية المذكورة لكورش في التأريخ. يقول "هرودوت"، المؤرخ اليوناني: لقد أعطى كورش أمراً إِلى قواته بألاّ يضربوا بسيوفهم سوى المحاربين، وأن لا يقتلوا أي جندي للعدوّ إِذا انحنى. وقد أطاع جيشهُ أوامره، بحيث أنَّ عامّة الناس لم تشعر بمصائب الحرب ومآسيها. ويكتب عنهُ "هرودوت" أيضاً: لقد كان كورش ملكاً كريماً، وسخياً عطوفاً، ولم يكن مثل بقية الملوك في حرصهم على المال، بل كان حريصاً على إِفشاء العدل، وكان يتسم بالعطاء والكرم، وكان ينصف المظلومين ويحب الخير. ويقول مؤرّخ آخر هو (ذي نوفن): لقد كانَ كورش ملكاً عادلا وعطوفاً، وقد اجتمعت فيه فضائل الحكماء، وشرف الملوك; فالهمة الفائقة كانت تغلب على وجوده، وكان شعاره خدمة الإِنسانية، وأخلاقه إِفشاء العدل، كما أنَّ التواضع والسماحة كانا يغلبان الكبر والعجب في وجوده. الطريف في الأمر أنَّ هؤلاء المؤرّخين الذين ذكروا كورش في الأوصاف الآنفة الذكر، كانوا مِن كُتاب التأريخ الغرباء عن قوم كورش، ومِن غير أبناء وطنه، حيثُ كانوا مِن (اليونان)، والمعروف أنَّ أهل اليونان تعرضوا لهزيمة منكرة على يد كورش عندما فتح "ليديا"! ثمّ إِنَّ أنصار هذا الرأي يقولون: إِنَّ الأوصاف المذكورة في القرآن الكريم حول "ذو القرنين" تتطابق مع الأوصاف التأريخية لكورش. والأهم من ذلك أنَّ كورش قد سافر أسفاراً نحو الشمال والشرق والغرب، وقد وردت قصة هذه الأسفار مُفصَّلة في حياته، وهي تتطابق مع الأسفار الثلاثة لذي القرنين الوارد ذكرها في القرآن الكريم. فأوّل جيش لهُ كانَ قد أرسله إِلى بلاد "ليديا" الواقعة في شمال آسيا الصغرى، وهذه البلاد كانت تقع غرب مركز حكومة كورش. وعندما نضع خارطة الساحل الغربي لآسيا الصغرى أمامنا، فسوف نرى أنَّ القسم الأعظم مِن الساحل يغرق في الخلجان الصغيرة وخاصةً قرب "أزمير" حيثُ يكون الخليج بشكل يشبه شكل العين. والقرآن يبيّن أنَ "ذو القرنين" في سفره نحو الغرب أحسَّ بأنَّ الشمس غرقت في عين مِن اللجن. هذا المشهد، هو نفس المنظر الذي شاهده "كورش" حينما تطمس الشمس في الخلجان الساحلية لتبدو لعين الناظر وكأنّها غارقة في تلك الخلجان الساحلية. أمّا الجيش الثّاني فقد كان باتجاه الشرق، وفي وصفه يقول المؤرخ "هرودوت": إنَّ هذا الهجوم الكورشي في الشرق كانَ بعد فتح "ليديا" وخاصّة بعد عصيان بعض القبائل الهمجية التي اجبرت بعصيانها كورش على هذا الهجوم. وتعبير القرآن الذي يقول: (حتى إِذا بلغ مطلع الشمس وجدها تطلع على قوم لم تجعل لهم مِن دونها ستراً) هو إِشارة إِلى سفر "كورش" إِلى أقصىْ الشرق حيث شاهدَ أنَّ الشمس تشرق على أناس لم يجعلوا لهم ما يظلّهم مِن حرّ الشمس، وهذه إِشارة إِلى أنَّ القوم كانوا مِن سكنة الصحارى الرحَّل. أمّا الجيش الثّالث فقد أرسله نحو الشمال باتجاه جبال القوقاز حيثُ وصلَ إِلى المضيق المحصور بين الجبلين، وبنى هناك سدّاً محكماً بطلب من أهل المنطقة، لكي يتحصنوا به عن هجمات القبائل الهمجية مِن قوم يأجوج ومأجوج. المضيق يسمى في الوقت الحاضر مضيق "داريال" حيث يمكن مشاهدته في الخرائط المُنتشرة في الوقت الحاضر، ويقع بين "والادي كيوكز" و "تفليس" في نفس المكان الذي ما زال يظهر فيه حتى الآن الجدار الحديدي الأثري، والذي هو نفس السد الذي بناه "كورش"، إِذ ثمّة تطابق واضح بينهُ وبين ما ذكر القرآن مِن صفات وخصائص لسدَّ ذي القرنين. هذه هي خلاصة الأدلة التي تدعم صحة النظرية الثّالثة حول شخصية "ذو القرنين"(9). صحيح أنَّ ثمّة نقاطاً مُبهمة في هذه النظرية، إلاَّ أنّها في الوقت الحاضر تعتبر أفضل النظريات في تشخيص شخصية "ذو القرنين" وتطبيق مواصفاتها القرآنية على الشخصيات التأريخية. ثالثاً: أين يقع سد ذي القرنين؟ بالرغم من محاولة البعض المطابقة بين سد ذي القرنين وبين جدار الصين الذي لا يزال موجوداً ويبلغ طوله مئات الكيلومترات، إِلاَّ أنَّ الواضح أنَّ جدار الصين لا يَدخل في بنائه الحديد ولا النحاس، ومضافاً إِلى ذلك لا يقع في مضيق جبلي ضيق، بل هو جدار مبني مِن مواد البناء العادية ويبلغ طول مئات الكيلومترات، وما زال موجوداً حتى الآن. البعض يرى في سد ذي القرنين أنّه سد مأرب في اليمن، ولكن هذا السد برغم وقوعه في مضيق جبلي، إِلاَّ أنَّهُ أنشىء لمنع السيل ولخزن المياه، ولم يدخل النحاس والحديد في بنائه. ولكن بالإِستناد إِلى شهادة العلماء وأهل الخبرة فإِنَّ السد - كما أشرنا لذلك قبل قليل - يقع في أرض القوقاز بين بحر الخزر والبحر الأسود، حيث توجد سلسلة جبلية كالجدار تفصل الشمال عن الجنوب، والمضيق الوحيد الذي يقع بين هذه الجبال الصخرية هو مضيق "داريال" المعروف، ويشاهد فيه جدار حديدي أثري حتى الآن، ولهذه المرجحات يعتقد الكثيرون أنَّ سد "ذو القرنين" يقع في هذا المضيق، وأنَّ المتبقي مِن مواصفات آثاره دليل مؤيِّد لذلك. الطريف في الأمر أنَّهُ يوجد نهر على مقربة من ذلك المكان يُسمى "سائرس" أي "كورش" إِذ كان اليونان يسمون كورش بـ (سائرس). الآثار الأرمنية القديمة كانت تطلق على هذا الجدار اسم "بهاك كورائي" والتي تعني "مضيق كورش" أو "معبر كورش" وهذا دليل آخر على أنَّ كورش هو الذي بنى السد(10). رابعاً: مَن هم يأجوج ومأجوج؟ ذكر القرآن الكريم يأجوج ومأجوج في سورتين، إِذ وردت المرّة الأُولى في الآيات التي نبحثها، والثّانية في سورة الأنبياء، آية (96). الآيات القرآنية تؤيَّد بوضوح أنَّ هذين الاسمين هما لقبيلتين همجيتين كانتا تؤذيان سكان المناطق المحيطة بهم. وفي كتاب "حزقيل" مِن التوراة، الفصل الثامن والثلاثين والتاسع والثلاثين، وفي كتاب رؤيا "يوحنا" الفصل العشرين، ذكرا بعنوان "كودك" و"ماكوك" التي تعني بعد التعريب يأجوج ومأجوج. ويقول العلاّمة الطباطبائي، في تفسير الميزان: إِنَّهُ يستفاد م ﴿قَالَ﴾ ذو القرنين ﴿هَذَا﴾ أي السد أو الإقدار عليه ﴿رَحْمَةٌ﴾ نعمة ﴿مِّن رَّبِّي﴾ على عباده ﴿فَإِذَا جَاء وَعْدُ رَبِّي﴾ بخروج يأجوج ومأجوج ﴿جَعَلَهُ دَكَّاء﴾ مدكوكا مسوى بالأرض ﴿وَكَانَ وَعْدُ رَبِّي حَقًّا﴾ كائنا البتة.