لا يوجد اتصال بالانترنت !
ستتم اعادة المحاولة بعد 10 ثواني ...
جاري التحميل ...
8 ، 9 ، 10 - ولما كان جامعاً لكل هذه الصفات البارزة، والأوسمة الكبيرة، فإِن الله سبحانه قد سلّم عليه في ثلاثة مواطن: (وسلام عليه يوم ولد، ويوم يموت، ويوم يبعث حياً). بحوث 1 - خذ الكتاب السماوي بقوة واقتدار! إِنّ لكلمة "قوة" في قوله: (يا يحيى خذ الكتاب بقوّة) - كما تقدم - معنى واسعاً جمعت فيه كل القدرات والطاقات المادية والمعنوية، الروحية الجسمية، وهذا بحد ذاته يبيّن ويوضح هذه الحقيقة، وهي أنّ الدين الإِلهي والإِسلام والقرآن لا يمكن أن تحفظ بالضعف والتخاذل والمهادنة اللين، بل يجب أن تصان بقوّة وتجعل في قلعة القدرة المنيعة. إنّ المخاطب هنا وإن كان يحيى، إلاّ أنّه قد ورد هذا التعبير بالنسبة إلى غيره من الأنبياء في موارد أُخرى من القرآن المجيد، ففي الآية (145) من سورة الأعراف أمر موسى بأن يأخذ التوراة بقوة: (فخذها بقوة). وفي الآية (63 و 93) من سورة البقرة يلاحظ أنّ الخطاب موجه لجميع بني إِسرائيل: (خذوا ما أتيناكم بقوة) وهو يوحي بأن هذا الحكم عام يشمل الجميع، ولا يخص شخصاً أو أشخاصاً معينين. وقد ورد هذا المفهوم بتعبير آخر في الآية (60) من سورة الإِنفال: (وأعدوا لهم ما استطعتم من قوّة). وعلى كل حال، فإِنّ هذه الآية تعتبر جواباً لمن يظن أنّه بالإِمكان تنفيذ عمل أو تحقيق غاية من موقعه الضعف، أو يريد حل المشاكل عن طريق المساومة في كل الظروف. 2 - ثلاثة أيّام صعبة في مصير الإِنسان إِنّ التعبير بـ (سلام عليه يوم ولد ويوم يموت ويوم يبعث حياً) يبيّن أن في تاريخ حياة الإِنسان وانتقاله من عالم إِلى عالم آخر ثلاثة أيّام صعبة: يوم يضع قدمه في هذه الدنيا: (يوم ولد) ويوم موته وانتقاله إِلى عالم البرزخ (ويوم يموت) ويوم بعثه في العالم الآخر (ويوم يبعث حياً) ولما كان من الطبيعي أن تكون هذه الأيّام مرافقة للإِضطرابات والقلق، فإنّ الله سبحانه يكتنف خاصّة عباده بسلامه وعافيته، ويجعل هؤلاء في ظل حمايته ومنعته في هذه المراحل العسيرة الثلاثة. وبالرغم من أنّ هذا التعبير قد ورد في القرآن في موردين فقط، في حق يحيى وفي حق عيسى(ع)، إلاّ أنّ التعبير القرآن في شأن يحيى امتيازاً خاصّاً، لأنّ المتكلم بهذا الكلام هو الله سبحانه، في حين أنّ المسيح(ع) هو المتكلم في حق نفسه. ومن الواضح أنّ الأفراد الذين يكونون في أوضاع وأحوال تشابه أحوال هذين العظيمين ستعمهم وتظللهم هذه السلامة. ومن البديع أن نقرأ في رواية عن الإِمام علي بن موسى الرضا(ع): "إِنّ أوحش ما يكون هذا الخلق في ثلاثة مواطن: يوم يلد ويخرج من بطن أمه فيرى الدنيا، ويوم يموت فيعاين الآخرة وأهلها، ويوم يبعث حياً فيرى أحكاماً لم يرها في دار الدنيا، وقد سلم الله على يحيى(ع) في هذه الثلاثة مواطن وآمن روعته، فقال: وسلام عليه ... "(3). 3 - النّبوة في الطفولة صحيح أنّ مرحلة النضج العقلي للإِنسان لها حدّ معين عادة، إِلاّ أنّه يوجد أفراد استثنائيون بين البشر دائماً، فأي مانع من أن يختصر الله هذه المرحلة لبعض عباده لمصالح ما، ويجعلها تتلخص في سنوات أقل؟ كما أن مرور سنة أو سنتين على الولادة أمر محتم من أجل التمكن من النطق عادة، في حين أنّنا نعلم أنّ عيسى(ع) قد تكلم في أيّامه الأُولى، وكان كلاماً عميق المحتوى من شأنه أن يصدر - عادة عن أناس كبار في السن، كما سيأتي في تفسير الآيات القادمة إِن شاء الله تعالى. من هنا يتّضح عدم صحة الإِشكال الذي طرحه بعض الأفراد حول بعض أئمة الشيعة، بأنّه كيف تسلّم بعضهم أُمور الإِمامة في سن صغيرة؟ نطالع في رواية عن علي بن أسباط، أحد أصحاب الإِمام الجواد محمّد بن علي النقي(ع) أنّه قال: رأيت أبا جعفر(ع) وقد خرج عليّ، فأجدت النظر إِليه، وجعلت أنظر إِلى رأسه ورجليه لأصف قامته لأصحابنا بمصر، فبينا أنا كذلك قعد فقال: "يا عليّ، إِنّ الله احتج في الإِمامة بمثل ما احتج به في النّبوة، قد يقول (وآتيناه الحكم صبياً)، وقد يقول (ولما بلغ أشده وبلغ أربعين سنة) فقد يجوز أن يؤتى الحكمة وهو صبي، ويجوز أن يؤتى الحكمة وهو ابن أربعين"(4). كما أنّ هذه الإية تتضمن جواباً مفحماً لأُولئك المعترضين الذين يقولون: إِنّ علياً(ع) لم يكن أوّل من آمن بالنّبي(ص) من الرجال، لأنّه كان ابن عشر سنين في ذلك اليوم، ولا يقبل إِيمان صبي في العاشرة من عمره! ولا بأس من ذكر الرّواية الشريفة عن الإِمام علي بن موسى الرضا(ع)، وهي أن جماعة من الأطفال قالوا للرضا(ع) أيّام طفولته: أذهب بنا نلعب، قال: "ما للعب خلقنا" وهذا ما أنزل الله تعالى (وآتيناه الحكم صبيّاً)(5). يجب الإِلتفات إِلى أن اللعب هنا هو الإِشتغال بما لا فائدة فيه، وبتعبير آخر لا هدف يطلب منه، لكن قد يستتبع اللعب واللهو - أحياناً - هدفاً منطقياً وعقلائياً ويسعى إِليه، فمن البديهي أن لهذا اللعب حكماً مستثنى. 4 - شهادة يحيى لم تكن ولادة يحيى عجيبة ومذهلة لوحدها، بل إِنّ موته أيضاً كان عجيباً من عدّة جهات، وقد ذكر أغلب المؤرخين المسلمين، وكذلك المصادر المسيحية، مجرى هذه الشهادة على هذه النحو، بالرغم من وجود اختلاف يسير في خصوصياتها بين هذه المراجع: لقد أصبح يحيى ضحية للعلاقات غير الشرعية لأحد طواغيت زمانه مع أحد محارمه، حيث تعلق "هروديس" ملك فلسطين اللاهث وراء شهواته ببنت أخته "هروديا" وهام في غرامها، وألهب جمالها قلبه بنار العشق، ولذلك صمم على الزواج منها! فبلغ هذا الخبر نبي الله العظيم يحيى(ع)، فأعلن بصراحة أنّ هذا الزواج غير شرعي ومخالف لتعليمات التوراة، وسأقف امام مثل هذا العمل. لقد انتشر صخب وضوضاء هذه المسألة في كل أرجاء المدينة، وسمعت تلك الفتاة (هيروديا) بذلك، فكانت ترى يحيى أكبر عائق في طريقها، ولذلك صممت على الإِنتقام منه في فرصة مناسبة لترفع هذا المانع من طريق شهواتها وميولها، فعمقت علاقتها بخالها ووطدتها، وجعلت من جمالها مصيدة له، وقد ملكت عليه كل مشاعره وأحاسيسه، إِلى أن قال لها هيروديس يوماً: اطلبي منّي كل ما تريدين فسأحققه لك قطعاً، فقالت هيروديا: لا أريد منك إِلاّ رأس يحيى! لأنّه قد شوّه سمعتي وسمعتك، وقد أصبح كل الناس يعيروننا، فإِنّ كنت تريد أن يهدأ قلبي ويسر خاطري فيجب أن تقوم بهذا العمل! فسلّم هيروديس - الذي أصبح مجنوناً لا يعقل من عشق هذه المرأة - لما أرادت من دون أن يفكر ويتنبه إِلى عاقبة هذا العمل، ولم يمض قليل من الزمن حتى أُحضر رأس يحيى عند تلك المرأة الفاجرة، إِلاّ أنّ عواقب هذا العمل الشنيع قد أحاطت به، وأخذت بأطرافه في النهاية(6). ونقرأ في الرّوايات أن سيد الشهداء الإِمام الحسين(ع) كان يقول: "إنّ من هوان الدنيا أن يهدى رأس يحيى بن زكريا إِلى بغي من بغايا بني إِسرائيل" أي إِن ظروفي تشابه من هذه الناحية ظروف وأحوال يحيى، لأنّ أحد أهداف ثورتي محاربة الأعمال المخزية لطاغوت زماني يزيد. ﴿وَسَلَامٌ عَلَيْهِ﴾ من الله ﴿يَوْمَ وُلِدَ﴾ من عبث الشيطان به ﴿وَيَوْمَ يَمُوتُ﴾ من عذاب القبر ﴿وَيَوْمَ يُبْعَثُ حَيًّا﴾ من هول المطلع والنار.