إِلاَّ أنَّ أمواج هذا القلق المتلاطمة هدأت بسرعة عند سماع كلام آخر من رسول الله إِليها، فقد خاطب مريم بصراحة: (قال كذلك قال ربّك هو علي هين)فأنت الواقفة على قدرتي والعالمة بها جيداً.. أنت التي رأيت ثمر الجنّة في فصل لا يوجد شبيه لتلك الفاكهة في الدنيا جنب محراب عبادتك.
أنت التي سمعت نداء الملائكة حين شهدت بعفتك وطهارتك .. أنت التي تعلمين أنّ جدك آدم قد خلق من التراب، فلماذا هذا التعجب من سماعك هذا الخبر؟
ثمّ أضاف: (ولنجعله آية للناس ورحمة منّا) فنحن نريد أن نبعثه للناس رحمة من عندنا، ونجعله معجزة، وعلى كل حال (وكان أمراً مقضياً).
فلا مجال بعد ذلك للمناقشة.
بحثان
1 - ما هو المراد من روح الله؟
إِنّ كل المفسّرين المعروفين تقريباً فسّروا الروح هنا بأنّه جبرئيل ملك الله العظيم، والتعبير عنه الروح لأنّه روحاني، ووجود مفيض للحياة، لأنّه حامل الرسالة الإِلهية إِلى الأنبياء وفيها حياة جميع البشر اللائقين، وإِضافة الروح هنا إِلى الله دليل على عظمة وشرف هذا الروح، حيث أنّ من أقسام الإِضافة هي (الإِضافة التشريفية).
ويستفاد من هذه الآية بصورة ضمنية أنّ نزول جبرئيل لم يكن مختصاً بالأنبياء، وإِن كان نزوله بالوحي والشريعة والكتب السماوية منحصراً فيه، إلاّ أنّه لا مانع من أن يواجه غير الأنبياء من أجل تبليغ رسائل وأوامر أُخرى، كرسالته المذكورة إِلى مريم.
2 - ما هو التمثل؟
"التمثل" في الأصل من "المثول"، أي الوقوف مقابل شخص أو شيء، ويقولون للشيء الذي يظهر بصورة أُخرى: ممثلا، وعلى هذا فإِنّ قوله: (تمثل لها بشراً سوياً) تعني أن ذلك الملك قد ظهر بصورة إِنسان.
ولا شك أنّ هذا الكلام لا يعني أن جبرئيل قد تبدل إِلى إِنسان شكلا وسيرة، لأنّ مثل هذا التحول والتبدل أمر غير ممكن، بل المراد أنّه ظهر بصورة إِنسان بالرغم من أنّ سلوكه كان نفس ذلك السلوك الملائكي، إِلاّ أنّ مريم التي لم تكن تعلم بالأمر في البداية، كانت تظن أن في مقابلها إِنساناً سيرة وصورة.
وتلاحظ كثيراً في الرّوايات والتواريخ كلمة "تمثل" بمعناها الواسع، ومن جملتها: إِنّ إِبليس لما اجتمع المشركون في "دار الندوة" وكانوا يخططون لقتل النّبي(ص)، ظهر بصورة شيخ كبير حصيف الرأي، يهدف إِلى الخير وشرع بإِغواء رؤساء قريش.
أو أنّ الدنيا وباطنها تمثلت للإمام علي(ع) على شكل أمراة في غاية الجمال والجذابية ولم تستطع أن تنفذ إِليه، وقصتها مفصّلة معروفة.
ونقرأ أيضاً في الرّوايات أنّ مال الإِنسان وولده وعمله تتجسم أمامه عند الموت بصورة مختلفة وخاصّة.
أو أنّ أعمال الإِنسان تتجسم في القبر ويوم القيامة، ويظهر كل منها بشكل خاص.
إِن التمثّل في جميع هذه الوارد يعني أن شيئاً أو شخصاً يظهر بشكل آخر من ناحية الصورة والشكل فقط، لا أن تتبدّل ماهيته وباطنة(1).
﴿قَالَ كَذَلِكِ قَالَ رَبُّكِ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِلنَّاسِ وَرَحْمَةً مِّنَّا﴾ لمن يؤمن به ﴿وَكَانَ﴾ خلقه ﴿أَمْرًا مَّقْضِيًّا﴾ في علم الله.