ثمّ يذكره وينبه مرّة أُخرى بعواقب الشرك وعبادة الأصنام المشؤومة، ويقول: (يا أبت إِنّي أخاف أن يمسك عذاب من الرحمن فتكون للشيطان ولياً).
إِنّ تعبير إِبراهيم هذا رائع جدّاً، فهو من جانب يخاطب عمّه دائماً بـ (يا أبتِ) وهذا يدل على الأدب واحترام المخاطب، ومن جانب آخر فإنّ قوله (أن يمسك) توحي بأنّ إِبراهيم كان قلقاً ومتأثراً من وصول أدنى أذى إِلى آزر، ومن جهة ثالثة فإِنّ التعبير بـ (عذاب من الرحمن) يشير إِلى أن أمرك نتيجة هذا الشرك وعبادة الأصنام قد بلغ حدّاً بحيث أن الله - الذي عمت رحمته الأرجاء - سيغضب عليك ويعاقبك، فانظر إِلى عملك الذي تقوم به كم هو خطير وكبير! ومن جهة رابعة، فإنّ عملك سيؤدي بك في النهاية أن تستظل بولاية الشيطان.
بحوث
1 - طريق النفوذ إِلى الآخرين
إِنّ طريقة محاورة إِبراهيم لآزر - الذي كان - طبقاً للرّوايات - من عبدة الأصنام، حيث كان يصنعها ويبيعها، وكان يعتبر عاملا مهمّاً في ترويج الشرك - تبيّن لنا بأنّه يجب استخدم المنطق الممتزج بالإِحترام والمحبة والحرص على الهداية، مقترناً بالحزم قبل التوسل بالقوة، للنفوذ إِلى نفوس الأفراد المنحرفين، لأنّ الكثير سيذعنون للحق عن هذا الطريق، وهناك جماعة سيظهرون مقاومتهم لهذا الأسلوب، ومن الطبيعي أن حساب هؤلاء يختلف، ويجب أن يعاملوا بأُسلوب آخر.
2 - دليل اتباع العالم
قرأنا في الآيات - محل البحث - أن إِبراهيم دعا عمه آزر لإِتباعه، مع كبر سنة وشهرته في المجتمع.
ويذكر دليله على دعوته هذه فيقول: (إِنّي قد جاءني من العلم ما لم يأتك).
إِنّ هذا قانون عام في أن الذين لا يعلمون يتبعون العالمين فيما يجهلونه، وهذا في الواقع هو منهج الرجوع إِلى المتخصصين في كل فن، ومن ذلك مسألة تقليد المجتهد في فروع الأحكام الإِسلامية.
من الواضح أنّ بحث إِبراهيم لم يكن في المسائل المرتبطة بفروع الدين، بل كان يتحدث عن أهم أصل من أصول الدين، ولكن حتى في مثل هذه المسائل أيضاً يجب الإِستعانة والإِستفادة من إِرشادات العالم، لتحصل الهداية إِلى الصراط السوي، الذي هو الصراط المستقيم.
3 - سوره الرحمة والتذكير
لقد وردت جملة (واذكر) خمس مرات عند الشروع بذكر قصص الأنبياء العظام ومريم، ولهذا السبب يمكن تسمية هذه السورة بسورة (التذكير) .. ذكر الأنبياء، والرجال والنساء العظام; وحركتهم التوحيدية، وجهودهم في طريق محاربة الشرك وعبادة الأصنام والظلم والجور.
ولما كان الذكر عادة بعد النسيان، فمن الممكن أن يكون إِشارة إِلى أن جذور التوحيد وعشق رجال الحق والإِيمان بجهادهم من أجل إِحقاق الحق حية في أعماق روح كل إِنسان، وإِن الكلام عن هؤلاء في الحقيقة نوع من الذكر.
وقد ورد وصف الله بـ "الرحمان" ست عشرة مرّة في هذه السورة، فإِنّ السورة تبدأ بالرحمة، رحمه الله بزكريا، رحمة الله بمريم والمسيح، وكذلك تنتهي السورة بهذه الرحمة حيث تقول في أواخرها: (إِن الذين آمنوا وعملوا الصالحات سيجعل لهم الرحمن وداً")(3).
﴿يَا أَبَتِ إِنِّي أَخَافُ أَن يَمَسَّكَ عَذَابٌ مِّنَ الرَّحْمَن﴾ ذكر الخوف ونكر العذاب مجاملة أو تجويزا للتوبة ﴿فَتَكُونَ لِلشَّيْطَانِ وَلِيًّا﴾ لاحقا في اللعن أو قرينا في النار.