ثمّ تبيّن الآية التالية بصورة جماعية عن كل الإِمتيازات والخصائص التي مرت في الآيات السابقة حول الأنبياء العظام وصفاتهم وحالاتهم والمواهب التي أعطاهم الله إِياها، فتقول: (أُولئك الذين أنعم الله عليهم من النّبيين من ذرية آدم وممن حملنا مع نوح ومن ذرية إِبراهيم وإِسرائيل).
ومع أن كل هؤلاء الأنيباء كانوا من ذرية آدم، غير أنّهم لقربهم من أحد الأنبياء الكبار فقد سُمّوا بذرية إِبراهيم وإِسرائيل، وعلى هذا فإنّ المراد من ذرية آدم في هذه الآية هو إِدريس، حيث كان - حسب المشهور - جدّ النّبي نوح، والمراد من الذرية هم الذين ركبوا مع نوح في السفينة، لأنّ إِبراهيم كان من أولاد سام بن نوح.
والمراد من ذرية إِبراهيم إِسحاق وإسماعيل ويعقوب، والمراد من ذرية إِسرائيل: موسى وهارون وزكريا ويحيى وعيسى، والذين أشير في الآيات السابقة إِلى حالاتهم وكثير من صفاتهم البارزة المعروفة.
ثمّ تكمل الآية هذا البحث بذكر الأتباع الحقيقيين لهؤلاء الأنبياء، فتقول: (وممن هدينا واجتبينا إِذا تتلى عليهم آيات الرحمن خروا سجداً وبكياً)(1).
لقد اعتبر بعض المفسّرين جملة (وممن هدينا واجتبينا ... ) بياناً آخر لنفس هؤلاء الأنبياء الذين أشير إِليهم في بداية هذه الآية.
إِلاّ أنّ ما قلنا أعلاه يبدو أنّه أقرب للصواب(2).
والشاهد على هذا الكلام الحديث المروي عن الإِمام زين العابدين علي بن الحسين(ع)، إِذ قال أثناء تلاوة هذه الآية: "نحن ُعنينا بها"(3).
وليسَ المراد من هذه الجملة هو الحصر مطلقاً، بل هي مصداق واضح لمتبعي وأولياء الأنبياء الواقعيين، وقد مرت بنا نماذج من مصاديق هذا البحث في التّفسير الأمثل هذا.
إلاّ أنّ عدم الإِلتفات إِلى هذه الحقيقة سبب أن يقع بعض المفسّرين - كالآلوسي في روح المعاني - في خطأ حيث طعن في هذا الحديث، وعدّه دليلا على كون أحاديث الشيعة غير معتبرة! وهذه هي نتيجة عدم الإِحاطة بالمفهوم الواقعي للروايات الواردة في تفسير الآيات.
وممّا يستحق الإِنتباه أن الحديث في الآيات السابقة كان عن مريم، في حين أنّها لم تكن من الإنبياء، بل كانت داخلة في جملة (ممن هدينا) وتعتبر من مصاديقها، ولها في كل زمان ومكان مصداق أو مصاديق، ومن هنا نرى أن الآية (69) من سورة النساء لم تحصر المشمولين بنعم الله بالأنبياء، بل أضافت إِليهم الصديقين والشهداء: (فأُولئك مع الذين أنعم الله عليهم من النّبيين والصديقين والشهداء) وكذلك عبرت الآية (75) من سورة المائدة عن مريم أم عيسى بالصديقة، فقالت: (وأمه صديقة).
﴿أُوْلَئِكَ﴾ المذكورين من زكريا إلى إدريس ﴿الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِم﴾ بالنعم الدينية والدنيوية ﴿مِّنَ النَّبِيِّينَ مِن ذُرِّيَّةِ آدَمَ﴾ كإدريس ﴿وَمِمَّنْ حَمَلْنَا﴾ في السفينة ﴿مَعَ نُوحٍ﴾ وهو إبراهيم من ذرية سام ﴿وَمِن ذُرِّيَّةِ إِبْرَاهِيمَ﴾ أي إسماعيل وإسحق ويعقوب ﴿وَإِسْرَائِيلَ﴾ أي ومن ذرية إسرائيل ويعقوب أي موسى وهرون وزكريا ويحيى وعيسى ويفيد أن ولد البنت من الذرية ﴿وَمِمَّنْ هَدَيْنَا﴾ أي ومن حملتهم ﴿وَاجْتَبَيْنَا﴾ واخترنا ﴿إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُ الرَّحْمَن خَرُّوا سُجَّدًا وَبُكِيًّا﴾ حالان جمع ساجد وباك وأصل بكى بكوي قلبت الواو ياء وأدغمت وكسر ما قبلها، قيل لعل المراد بالآيات الكتب المنزلة عليهم.