التّفسير
أفضل النعم الإلهيّة:
مع الإلتفات إلى ما تقدّم في الآية السابقة التي تحدّثت عن تخويف الشيطان من الفقر ووعد الرحمن بالمغفرة والفضل الإلهى، ففي هذه الآية مورد البحث دار الحديث عن الحكمة والمعرفة والعلم لأنّ الحكمة فقط هي التي يمكنّها التفريق والتمييز بين هذين الدافعين الرحماني والشيطاني وتدعوا الإنسان إلى ساحل المغفرة والرحمة الإلهيّة وترك الوساوس الشيطانيّة وعدم الإعتناء بالتخويف من الفقر.
وبعبارة اُخرى، أنّنا نلاحظ في بعض الأشخاص نوعٌ من العلم والمعرفة بسبب الطهارة القلبيّة ورياضة النفس حيث تترتّب عليها آثار وفوائد جمّة، منها أن يدرك الشخص فوائد الإنفاق ودوره المهم والحيوي في المجتمع ويميّز بينه وبين ما تدعوه إليه وساوس الشيطان فتقول الآية:
(يؤتي الحكمة من يشاء).
وقد ذكر لكلمة (الحكمة) معان كثيرة منها (المعرفة والعلم بأسرار العالم) ومنها (العلم بحقائق القرآن) و (الوصول إلى الحقّ بالقول والعمل) و (معرفة الله تعالى) و (أنّها النور الإلهي الذي يميّز بين وساوس الشيطان وإلهامات الرحمان).
والظاهر هو أنّ الحكمة تأتي بالمعنى الواسع حيث تشمل جميع هذه الاُمور بما فيها النبوّة التي هي نوعٌ من العلم والأطّلاع والإدراك، فهي في الأصل أخذت من مادة (حكم)- على وزن حرف- بمعنى المنع، وبما أنّ العلم والمعرفة والتدبير تمنع الإنسان من إرتباك الأعمال الممنوعة والمحرّمة، فلذا يقال عنها أنّها حكمة.
بديهيّ أنّ القصد من (مَن يشاء) ليس إسباغ الحكمة على كلّ من هبّ ودبّ بغير حساب، بل أنّ مشيئة الله هي دائماً منبعثة عن حكمة، أي أنّه يمنحها لمن يستحقّها، ويرويه من سلسبيل هذه العين الزلال.
(ومَن يؤتَ الحكمة فقد أُوتي خيراً كثيراً).
رغم أنّ واهب الحكمة هو الله فإنّ اسمه لم يرد في هذه الآية وإنما بني الفعل للمجهول (ومن يؤتَ الحكمة).
ولعلّ المقصود هو أنّ الحكمة أمر حسن بذاته بصرف النظر عن مصدرها ومنشئها.
من الملاحظ أنّ الآية تقول: إذا نزلت الحكمة بساحة أحد فقد نزلت بساحته البركة والخير الكثير لا الخير المطلق، لأنّ السعادة والخير المطلق ليسا في العلم وحده، بل العلم أهمّ عامل لهما.
(وما يذّكّر إلاَّ اُولوا الألباب).
"التذكّر" هو حفظ العلوم والعارف في داخل الروح.
والألباب جمع لب وهو قلب كلّ شيء ومركزه، ولهذا قيل العقل اللب.
تقول هذه الفقرة من الآية إنّ أصحاب العقول هم الذين يحفظون هذه الحقائق ويتذكّرونها.
رغم أنّ جميع الناس ذو عقل- عدا المجانين- فلا يوصفون جميعاً بأُولي الألباب، بل هؤلاء هم الذين يستخدمون عقولهم فيشقّون طريقهم على ضوء نورها الساطع.
ونختم هذا البحث بكلام لأحد علماء الإسلام (ويحتمل أنّه مقتبس من كلام الرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم)) حيث يقول: قد يريد الله تعالى أحياناً تعذيب أمّة على الأرض ولكنّه يرى معلّماً يعلّم الأولاد الحكمة فيرفع عن تلك الأُمّة العذاب بسبب ذلك(1).
﴿يُؤتِي الْحِكْمَةَ﴾ العلم النافع أو تحقيق العلم وإتقان العمل ﴿مَن يَشَاء﴾ قدم ثاني المفعولين اهتماما به ﴿وَمَن يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا﴾ نكر تعظيما أي أي خير كثير ﴿وَمَا يَذَّكَّرُ﴾ يتعظ بالآيات ﴿إِلاَّ أُوْلُواْ الأَلْبَابِ﴾ ذوو العقول العالمون العاملون.