لا يوجد اتصال بالانترنت !
ستتم اعادة المحاولة بعد 10 ثواني ...
جاري التحميل ...
ولما كان موسى لم يهدف من طلباته المخلصة هذه إلاّ الخدمة الأكثر والأكمل، فإِنّ الله سبحانه قد لبى طلباته في نفس الوقت (قال قد أُتيت سؤلك يا موسى). إِنّ موسى في الواقع طلب كل ما كان يلزمه في هذه اللحظات الحساسة الحاسمة التي يجلس فيها لأوّل مرّة على مائدة الضيافة الإِلهية ويطأ بساطها، والله سبحانه كان يحب ضيفه أيضاً، حيث لبّى كل طلباته وأجابه فيها في جملة قصيرة تبعث الحياة، وبدون قيد وشرط ثمّ وبتكرار اسم موسى أكمل له الإِستجابة وحلاوتها وأنزال كل إِبهام عن قلبه، وأي تشويق وافتخار أن يكرر المولى اسم العبد؟ بحوث 1 - شروط قيادة الثورة لا شك أنّ تبديل البنية في نظام المجتمعات البشرية، وتغيير القيم المادية والملحدة إلى القيم المعنوية والإِنسانية، وخاصّة إِذا كان الطريق يقع في طريق الفراعنة العنودين، ليس بالعمل الهين، بل يحتاج إِلى استعداد روحي وجسمي، وقدرة على التفكير، وقوة في البيان، واستمرار الإِمدادات الإِلهية، ووجود الصاحب الذي يطمأن إِليه. وهذه هي الأُمور التي طلبها موسى(ع) في بداية الرسالة من ربّه. إِن هذه المطالب تبيّن بنفسها أنّ موسى(ع) كان يمتلك روح الوعي والإِستعداد حتى قبل النبوة، وتبيّن أيضاً هذه الحقيقة، وهي أنّه كان واقفاً على أبعاد مسؤوليته جيداً، وكان يعلم بأنّه ماذا يجب أن يستعمل في الساحة في تلك الظروف، وأي سلاح هو الأمضى، ليمتلك القدرة على مقارعة الاجهزة الفرعونية، وهذا نموذج وقدوة لكل القادة الربانيين في كل عصر وزمان، ولكل السائرين في هذا الطريق. 2 - مقارعة الطغاة لا شك أنّ لفرعون نقاطاً وصفات منحرفة كثيرة، فقد كان كافراً، عابداً للأصنام، ظالماً، مستبداً وو .. إلاّ أنّ القرآن طرح من بين كل هذه الإِنحرافات مسألة الطغيان (إِنّه طغى) لأن روح الطغيان والتمرد في مقابل أمر الحق عصارة وخلاصة كل هذه الإِنحرافات وجامع لها. ويتّضح بصورة ضمنية أنّ هدف الأنبياء في الدرجة الأُولى هو مقارعة الطواغيت والمستكبرين، وهذا في الواقع عكس التحليل الذي يذكره الماركسيون حول الدين تماماً، حيث زعموا أنّ الدين في خدمة الطغاة والمستعمرين الماضين. إِنّ كلام هؤلاء قد يصح في شأنه المذاهب المصطنعة التخديرية، إلاّ أنّ تاريخ الأنبياء الحقيقيين ينفي بصراحة تامة ظنون هؤلاء الواهية في شأن الأديان والمذاهب، خاصّة وإِن ثورة موسى بن عمران شاهد ناطق في هذا المجال. 3 - كل عمل يحتاج إِلى تخطيط ووسائل الدرس الآخر الذي نستفيد من حياة موسى وجهاده العظيم، هو أنّه حتى الأنبياء، ومع امتلاكهم للمعجزات، كانوا يستعينون بالوسائل العادية الطبيعية، من البيان البليغ والمؤثر، ومن طاقات المؤمنين بهم الفكرية والجسمية، في سبيل تقدم عملهم وتطوره، فليس صحيحاً أن ننتظر المعاجز في حياتنا دائماً، بل يجب تهيئة البرامج وأدوات العمل، والإِستمرار في التقدم بالطرق والوسائل الطبيعية، فإِذا ما واجهتنا عقدة ومعضلة، فيجب أن ننتظر اللطف الإِلهي هناك. 4 - التسبيح والذكر لقد جعل موسى الهدف النهائي من طلباته - كما في الآيات محل البحث - هو: (كي نسبحك كثيراً ونذكرك كثيراً) ومعلوم أنّ التسبيح يعني تنزيه الله عن تهمة الشرك والنواقص الإِمكانية، ومعلوم أيضاً أنّ مراد موسى(ع) لم يكن تكرار جملة "سبحان الله" مراراً، بل كان الهدف إِيجاد حقيقة التسبيح في ذلك المجتمع الملوث في ذلك الزمان، فيقتلعوا الأصنام، ويهدموا معابد الأوثان، وتُغسل الأدمغة من أفكار الشرك، وترفع النواقص المادية والمعنوية. وبعد تنزيه المجتمع عن هذه المفاسد، عليهم أن يحيوا في القلوب ذكره تعالى وذكر صفاته، ويجعلون الصفات الإِلهية تشع في أرجاء المجتمع، والتأكيد على كلمة "كثيراً" توحي بأنّه كان يريد أن يجعل هذا الأمر عاماً، وأن يخرجه من الإِختصاص بدائرة محدودة. 5 - الرّسول الأعظم يكرر مطالب موسى يستفاد من الرّوايات الواردة في كتب أهل السنة والشيعة أنّ النّبي(ص) قد طلب من الله نفس تلك المطالب التي طلبها موسى(ع) من الله من أجل تقدم عمله، مع فارق، هو أنّه وضع اسم علي(ع) مكان اسم هارون، وقال: "اللهم إِنّي أسألك بما سألك أخي موسى أن تشرح لي صدري، وأن تيسر لي أمري، وأن تحل عقدة من لساني، يفقهوا قولي، واجعل لي وزيراً من أهلي، علياً أخي، أشدد به أزري، وأشركه في أمري، كي نسبحك كثيراً، ونذكرك كثيراً". وقد نقل هذا الحديث السيوطي في تفسير "الدر المنثور"، والعلاّمة الطبرسي في "مجمع البيان"، وكثيرون وغيرهم من كبار علماء الفريقين باختلاف في العبارات. وهذا الحديث يشبه حديث المنزلة، حيث قال(ص) لعلي(ع): "ألا ترضى أن تكون منّي بمنزلة هارون من موسى إِلا أنّه لا نبي بعدي". وهذا الحديث قد ورد في كتب العامّة المعتمدة، وكما قال المحدث البحراني في كتابه "غايه المرام"; إِنّ هذا الحديث قد ورد بمائة طريق عن أهل السنة، وبسبعين طريق من طرق الشيعة"، فهو معتبر إِلى الحدّ الذي لا يدع أي مجال للشك فيه، أو لإِنكاره. وقد بحثنا حول حديث المنزلة بحثاً ضافياً في ذيل الآية (142) من سورة الأعراف، والذي نعتبر ذكره ضرورياً هنا، هو أن بعض المفسّرين - كالآلوسي في "روح المعاني" - مع قبوله أصل الرّواية، إلاّ أنّه أشكل في دلالتها، وقالوا: إِن جملة (أشركه في أمري) لا تثبت غير الإِشتراك في أمر إرشاد ودعوة الناس إِلى الحق! إلاّ أنّ من الواضح أن مسألة الإِشتراك في الإرشاد، وبتعبير آخر: الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ونشر الدين، واجب على كل فرد من المسلمين، وهذا لم يكن شيئاً يطلبه النّبي(ص) لعلي(ع) .. إِن هذا توضيح للواضحات، ولا يمكن تفسير دعاء النّبي(ص) بذلك مطلقاً. ومن جهة أُخرى، فإِنّا نعلم أن الأمر لم يكن الإِشتراك في النّبوة، وبناء على هذا نخلص إِلى هذه النتيجة، وهي أن المطلوب مقام خاص غير النّبوة، وهل يمكن أن يكون إلاّ الولاية الخاصّة؟! أليس ذلك هو الخلافة بالمفهوم الخاص الذي تقول به الشيعة؟ وجملة "وزيراً" أيضاً تؤيد وتقوي ذلك. وبتعبير آخر، فإِنّ هناك واجبات لا يقوم بها كل الأفراد، وهي حفظ دين النّبي(ص) من كل أنواع التحريف والإِنحراف، وتفسير أي إِبهام يبديه البعض في محتوى الدين، وقيادة الأُمّة في غيبة النّبي(ص) وبعده، والمساعدة المؤثرة جداً في تحقيق أهدافه. إِن هذا هو الشيء الذي طلبه النّبي(ص) بقوله: "أشركه في أمري" لعلي(ع)من الله سبحانه. ومن هنا يتّضح أن وفاة هارون قبل موسى لا توجد إِشكالا في هذا البحث، لأنّ الخلافة والنيابة تكون أحياناً في زمان غيبة القائد كما تولاها هارون عند غياب موسى، وتكون أحياناً بعد وفاته كما كان علي(ع) بعد وفاة النّبي(ص)، وكلاهما لهما نفس القدر المشترك والجامع الواحد، وإِن كانت المصاديق متفاوتة. ﴿قَالَ قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ يَا مُوسَى﴾ أي مسؤولك