لا يوجد اتصال بالانترنت !
ستتم اعادة المحاولة بعد 10 ثواني ...
جاري التحميل ...
على كل حال، فإِنّ هذه الأُم أحسّت بأن حياة وليدها في خطر، وإِخفاؤه مؤقتاً سوف لا يحل المشكلة .. في هذه الأثناء ألهمها الله - الذي رشّح هذا الطفل لثورة كبيرة - أن أودعيه عندنا، وانظري كيف سنحافظ عليه، وكيف سنرده إِليك؟ فألقى في قلب الأُمّ: (أن اقذفيه في التابوت فاقذفيه في اليم). "اليم" هنا يعني نهر النيل العظيم الذي يطلق عليه أحياناً اسم البحر لسعته وكثرة مياهه. والتعبير بـ (اقذفيه في التابوت) ربما كان إشارة إِليها أن ارفعي ولدك بكل شجاعة وبدون أي خوف أو ارتياب، وضعيه في الصندوق، وألقيه في نهر النيل، ولا تدعي للخوف سبيلا إِلى نفسك. كلمة "التابوت" تعني الصندوق الخشبي، ولا يعني دائماً الصندوق الذي توضع فيه الأموات كما يظن البعض، بل إِنّه له معنى واسعاً، حيث تطلق أحياناً على الصناديق الأُخرى أيضاً، كما قرأنا ذلك في قصة طالوت وجالوت في ذيل الآية (248) من سورة البقرة(2). ثمّ تضيف: (فليلقه اليم بالساحل يأخذه عدو لي وعدو له) والملفت أن كلمة "عدو" قد تكررت هنا، وهذا في الحقيقة تأكيد على عداء فرعون لله، ولموسى وبني إِسرائيل، وأشارت إِلى أن الشخص الذي انغمس إِلى هذا الحد في العداء هو الذي سيتولى في النهاية تربية موسى ليعلم البشر الضعيف أنّه ليس عاجزاً عن التمرد على أمر الله وحسب، بل إِنّ الله سيربيه على يد عدوه وفي أحضانه! وعندما يريد أن يفني المتمردين الظالمين فسيفنيهم ويبيدهم بأيديهم، ويحرقهم بالنار التي يوقدونها بأنفسهم، فأي قدرة عجيبة قدرته تعالى؟! ولما كان موسى(ع) يجب أن يُحفظ في حصن أمين في هذا الطريق المليء بالمخاطر، فقد ألقى الله قبساً من محبّة عليه، إِلى الحد الذي لم ينظر إِليه أحد إِلا ويعشقه، فلا يكف عن قتله وحسب، بل لا يرضى أن تنقص شعرة من رأسه، كما يقول القرآن في بقية هذه الآيات: (وألقيت عليك محبّة منّي) فأي درع عجيب هذا الحب! إِنّه لا يرى بالعين، ولكنه أقوى من الحديد والفولاذ!! يقولون: إِنّ قابلة موسى كانت من الفراعنة، وكانت مصممة على رفع خبر ولادته إِلى فرعون، إلاّ أنّه لما وقعت عينها على عين المولود الجديد، فكأن ومضة برقت من عينه وأضاءت أعماق قلبها، وطوّقت محبته رقبتها، وابتعدت عن رأسها كل الأفكار السيئة. ونقرأ في حديث عن الإِمام الباقر(ع) في هذا الباب: "فلمّا وضعت أم موسى موسى نظرت إِليه وحزنت عليه واغتمت وبكت وقالت: تذبح الساعة، فعطف الله الموكلة بها عليه، فقالت لأم موسى: ما لك قد اصفر لونك؟ فقالت: أخاف أن يذبح ولدي، فقالت: لا تخافي وكان موسى لا يراه أحد إِلا أحبه"(3)، وكان درع المحبة هذا هو الذي حفظه تماماً في بلاط فرعون. وتقول الآية في النهاية: (ولتصنع على عيني) فلا شك في أنّه لا تخفى ذرة عن علم الله في السماء ولا في الأرض، وكل شيء حاضر بين يديه، إلاّ أنّ هذا التعبير إِشارة إِلى العناية الخاصّة التي أولاها الله سبحانه لموسى وتربيته. وبالرغم من أنّ بعض المفسّرين اعتقد أنّ جملة (ولتصنع على عيني)مقصورة على مرحلة رضاعة موسى وأمثالها، إلاّ أنّ من المعلوم أن لهذه الجملة معنى واسعاً، تدخل فيه كل أنواع التربية والعناية، وصنع موسى(ع) من أجل حمل راية الرسالة مع عناية الله الخاصّة. ويستفاد بوضوح من القرائن الموجودة في هذه الآيات، والآيات المشابهة لها في القرآن، وممّا جاء في الرّوايات والتواريخ، أنّ أُمّ موسى(ع) قد ألقت الصندوق الذي كان فيه موسى وهي في حالة من الخوف والقلق، وحملته أمواج النيل، وأخذ قلب أم موسى يخفق من مشاهدة هذا المنظر، إلاّ أنّ الله قد ألهم قلبها أن لا يدع للهم والحزن إِليه طريقاً، فهو سبحانه سيعيده إِليها في النهاية سالماً. وكان قصر فرعون قد بني على جانب شط النيل، ويحتمل أن فرعاً من هذا النهر العظيم كان يمر داخل قصره، فحملت أمواج المياه الصندوق إِلى ذلك الفرع الصغير، وبينما كان فرعون وزوجته على حافة الماء ينظرون إِلى الأمواج، وإذا بهذا الصندوق الغريب يلفت انتباههما، فأمر جنوده أن يخرجوا الصندوق من الماء، فلمّا فتحوا الصندوق شاهدوا بكامل العجب مولوداً جميلا فيه، وهو شيء لم يكن بالحسبان. وهنا تنبه فرعون إِلى أن هذا الوليد ينبغي أن يكون من بني إِسرائيل، وإِنما لاقى هذا المصير خوفاً من جلاوزته، فأمر بقتله، إلاّ أنّ زوجته - التي كانت عقيماً - تعلقت جدّاً بالطفل، فقد نفذ النور الذي كان ينبعث من عيني الطفل إِلى زوايا قلبها، وجذبها إِليه، فضربت على يد فرعون وطلبت منه أن يصرف النظر عن قتله، وعبرت عن هذا الطفل بأنّه (قرّة عين)، بل وتمادت في طلبها، فطلبت منه أن يتخذاه ولداً ليكون مبعث أمل لهما، ويكبر في أحضانهما، وأصرّت على طلبها حتى أصابت سهامها، وحققت ما تصبو إِليه. غير أن الطفل جاع، وأراد لبناً، فاخذ يبكي ويذرف الدموع، فرق قلب امرأة فرعون لهذه الدموع والبكاء واهتز، ولا محيص من أن يبحث الخدم عن مرضعة له، إلاّ أنّهم كلما جاؤوه بمرضعة لم يقبل ثديها، لأن الله سبحانه كان قد قدر أن يعيده إِلى أُمّه، فهب المأمورون للبحث من جديد، وكانوا يطرقون الأبواب بحثاً عن مرضع جديدة. ﴿أَنِ اقْذِفِيهِ﴾ ضعيه ﴿فِي التَّابُوتِ فَاقْذِفِيهِ فِي الْيَمِّ﴾ البحر يعني النيل ﴿فَلْيُلْقِهِ الْيَمُّ بِالسَّاحِلِ﴾ أي بشاطئه أمر معناه الخبر ﴿يَأْخُذْهُ﴾ جواب فليلقه ﴿عَدُوٌّ لِّي﴾ في الحال ﴿وَعَدُوٌّ لَّهُ﴾ في المال وهو فرعون وكرر عدو مبالغة ﴿وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِّنِّي﴾ يحبك من رآك حتى أحبك فرعون ﴿وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي﴾ تربي وأنا راعيك وحافظك.