في الآية الثانية إشارة إلى كيفيّة الإنفاق من حيث السرّ والعلن فتقول: (إن تبدوا الصدقات فنعمّا هي وإن تخفوها وتؤتوها الفقراء فهو خير لكم).
وسوف يعفوالله عنكم بذلك (ويكفّرعنكم من سيئاتكم واللهبماتعملون خبير).
بحوث
1- لاشكّ أنّ لكلّ من الإنفاق العلني والإنفاق الخفيّ في سبيل الله آثاراً نافعة، فإذا كان الإنفاق واجباً فالإعلان عنه يشجع الآخرين على القيام بمثله، كما يرفع عن المنفق تهمة إهماله لواجبه.
أمّا إذا كان الإنفاق مستحبّاً، فإنّه يكون في الواقع أشبه بالدعاية والإعلان العملي لحثّ الناس على فعل الخير، ومساعدة المحتاجين، والقيام بالأعمال الخيرية الإجتماعية العامّة.
أمّا الإنفاق الخفيّ البعيد عن الأنظار فلا شكّ أنه أبعد عن الرياء وحبّ الظهور وخلوص النيّة فيه أكثر، خاصّة وأن مدّ يد العون إلى المحتاجين في الخفاء يحفظ لهم ماء وجههم وكرامتهم، ولذلك تثني الآية على كلا الأسلوبين.
وذهب بعض المفسرين إلى أنّ الإخفاء يقتصر على الإنفاق المستحب، وأمّا الإنفاق الواجب كالزكاة وغيره فيفضّل في حالة الجهر، وليست هذه بقاعدة عامّة، بل تختلف باختلاف حالات الإنفاق.
ففي الحالات التي يكون فيها الجانب التشجيعي أكثر ولايصادر فيها الإخلاص فالإظهار أولى،وفي الحالات التي يكون فيها المحتاجون من ذوي العزّة والكرامة فإن حفظ ماء وجوههم يقتضي إخفاء الإنفاق، كما أنّه إذا خشي الرياء وعدم الإخلاص فالإخفاء أولى.
وقد جاء في بعض الأحاديث أنّ الإنفاق الواجب يفضّل فيه الإظهار، والمستحبّ يفضّل فيه الإخفاء.
وقد نقل عن الإمام الصادق (عليه السلام) أنّه قال: الزكاة المفروضة تخرج علانية وتدفع علانية، وغير الزكاة إن دفعه سرّاً فهو أفضل(1).
إلاّ أنّ هذه الأحاديث لا تتعارض مع ما قلناه آنفاً، لأنّ أداء الواجب يكون أقلّ امتزاجاً بالرياء، فهو واجب لابدّ أن يؤدّيه كلّ مسلم في محيط الاسلامي كالضريبة اللازمة التي يدفعها الجميع، وعليه فإنّ إظهار الإنفاق أفضل، أمّا الإنفاق المستحبّ فليس إلزامياً لذلك، فإنّ إظهار إنفاقه قد يشوبه شيء من الرياء وعدم خلوص النيّة، فيكون الأجدر إخفاؤه.
2- قوله: (ويكفّر عنكم من سيّئاتكم) يُوضّح أنّ للإنفاق في سبيل الله أثراً في غفران الذنوب، فالتكفير عن السيئات- أي تطغية الذنوب- كناية عن ذلك.
بديهيّ أنّ هذا لا يعني أنّ إنفاق بعض المال يذهب بكلّ ذنوب الإنسان، ولذلك لابدّ من ملاحظة استعمال "من" التبعيضية، أي أنّ الغفران يشمل قسماً من ذنوب الإنسان، وأنّ هذا القسم يتناسب مع مقدار الإنفاق وميزان الإخلاص.
هنالك أحاديث كثيره بشأن غفران الذنوب بالإنفاق وردت عن أهل البيت(عليهم السلام)وفي كتب أهل السنّة.
من ذلك: "صدقة السرّ تطفيء غضب الربّ وتطفيء الخطيئة كما يطفيء الماء النار"(2).
كما جاء أيضاً: "سبعة يظلّهم الله في ظلّه يوم لا ظلّ إلاَّ ظلُّه: الإمام العدل، والشابّ الذي نشأ في عبادة الله تعالى، ورجل قلبه يتعلّق بالمساجد حتّى يعود إليها، ورجلان تحابّا في الله واجتمعا عليه وافترقا عليه، ورجل دعته امرأة ذات منصب وجمال فقال إنّي أخاف الله تعالى، ورجل تصدّق فأخفاه حتّى لم تعلم يمينه ما تنفق شماله، ورجل ذكر الله خالياً ففاضت عيناه"(3).
3- يستفاد من جملة (والله بما تعلون خبير).
هو أنّ الله عالم بما تنفقون سواء أكان علانيهً أم سرّاً، كما أنّه عالم بنيّاتكم وأغراضكم من إعلان إنفاقكم ومن إخفائه.
على كلّ حال أنّ الذي له تأثير في الإنفاق هو النيّة الطاهرة والخلوص في العمل لله وحده، لأنّه هو الذي يجزي أعمال العبد،وهو عالم بما يخفي ويعلن.
﴿إِن تُبْدُواْ الصَّدَقَاتِ﴾ أي الزكاة المفروضة ﴿فَنِعِمَّا هِيَ﴾ نعم شيئا إبداؤها ﴿وَإِن تُخْفُوهَا﴾ يعني النافلة ﴿وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاء﴾ سرا ﴿فَهُوَ خَيْرٌ لُّكُمْ﴾ وقيل الآية على عمومها للفرض والنفل ﴿وَيُكَفِّرُ عَنكُم مِّن سَيِّئَاتِكُمْ وَاللّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ﴾ سرا وجهرا ﴿خَبِيرٌ﴾ عليم.