فقبل السّحرة ذلك أيضاً، وألقوا كلّ ما جلبوه معهم من عصي وحبال للسحر في وسط الساحة دفعة واحدة، وإذا قبلنا الرّواية التي تقول: إنّهم كانوا آلاف الأفراد، فإنّ معناها أنّ في لحظة واحدة اُلقيت في وسط الميدان آلاف العصي والحبال التي ملئت أجوافها بمواد خاصة (فإذا حبالهم وعصيّهم يخيل إليه من سحرهم أنّها تسعى)!
أجل، لقد ظهرت بصورة أفاع وحيّات صغيرة وكبيرة متنوّعة، وفي أشكال مختلفة ومخيفة، ونقرأ في الآيات الاُخرى من القرآن الكريم في هذا الباب: (سحروا أعين الناس واسترهبوهم وجاؤوا بسحر عظيم)(1) وبتعبير الآية (44) من سورة الشعراء: (وقالوا بعزّة فرعون إنّا لنحن الغالبون).
لقد ذكر كثير من المفسّرين أنّ هؤلاء كانوا قد جعلوا في هذه الحبال والعصي مواداً كالزئبق الذي إذا مسّته أشعّة الشمس وإرتفعت حرارته وسخن، فإنّه يولّد لهؤلاء - نتيجة لشدّة فورانه - حركات مختلفة وسريعة "إنّ هذه الحركات لم تكن سيراً وسعياً حتماً، إلاّ أنّ إيحاءات السّحرة التي كانوا يلقنونها الناس، والمشهد الخاص الذي ظهر هناك، كان يظهر لأعين الناس ويجسّد لهم أنّ هذه الجمادات قد ولجتها الروح، وهي تتحرّك الآن.
(وتعبير (سحروا أعين الناس) إشارة إلى هذا المعنى أيضاً، وكذلك تعبير (يخيّل إليه) يمكن أن يكون إشارة إلى هذا المعنى أيضاً).
على كلّ حال، فإنّ المشهد كان عجيباً جدّاً، فإنّ السّحرة الذين كان عددهم كبيراً، وتمرسهم وإطلاعهم في هذا الفن عميقاً، وكانوا يعرفون جيداً طريقة الإستفادة من خواص هذه الأجسام الفيزيائية والكيميائية الخفيّة، إستطاعوا أن ينفذوا إلى أفكار الحاضرين ليصدّقوا أنّ كلّ هذه الأشياء الميتة قد ولجتها الروح.
فعلت صرخات السرور من الفراعنة، بينما كان بعض الناس يصرخون من الخوف والرعب، ويتراجعون إلى الخلف.
في هذه الأثناء (فأوجس في نفسه خيفةً موسى) وكلمة "أوجس" أخذت من مادّة (إيجاس) وفي الأصل من (وجس) على وزن (حبس) بمعنى الصوت الخفي، وبناءً على هذا فإنّ الإيجاس يعني الإحساس الخفي والداخلي، وهذا يوحي بأنّ خوف موسى الداخلي كان سطحيّاً وخفيفاً، ولم يكن يعني أنّه أولى إهتماماً لهذا المنظر المرعب لسحر السّحرة، بل كان خائفاً من أن يقع الناس تحت تأثير هذا المنظر بصورة يصعب معها إرجاعهم إلى الحقّ.
أو أن يترك جماعة من الناس الميدان قبل أن تتهيّأ الفرصة لموسى لإظهار معجزته، أو أن يخرجوهم من الميدان ولا يتضح الحقّ لهم، كما نقرأ في خطبة الإمام علي (ع) الرقم (السادس) من نهج البلاغة: "لم يوجس موسى (ع) خيفة على نفسه، بل أشفق من غلبة الجهّال ودول الضلال"(2).
ومع ما قيل لا نرى ضرورة لذكر الأجوبة الاُخرى التي قيلت في باب خوف موسى (ع).
على كلّ حال، فقد نزل النصر والمدد الإلهي على موسى في تلك الحال، وبيّن له الوحي الإلهي أنّ النصر حليفه كما يقول القرآن: (قلنا لا تخف إنّك أنت الأعلى).
إنّ هذه الجملة وبتعبيرها المؤكّد قد أثلجت قلب موسى بنصره المحتّم - فإنّ (إنّ) وتكرار الضمير، كلّ منهما تأكيد مستقل على هذا المعنى، وكذلك كون الجملة إسميّة - وبهذه الكيفيّة، فقد أرجعت لموسى إطمئنانه الذي تزلزل للحظات قصيرة.
﴿قَالَ بَلْ أَلْقُوا﴾ مقابلة لأدبهم وعدم احتفال بكيدهم وجودا بما مالوا إليه من البدء ﴿فَإِذَا حِبَالُهُمْ وَعِصِيُّهُمْ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِن سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تَسْعَى﴾ قيل لطخوها بالزئبق فلما حميت الشمس تحرك بحرها فخيل إليه أنها تسعى.