لا يوجد اتصال بالانترنت !
ستتم اعادة المحاولة بعد 10 ثواني ...
جاري التحميل ...
ولذلك لم ير فرعون بدّاً إلاّ أن يجمع كيانه ويلملم ما تبّقى من هيبته وسلطانه عن طريق الصراخ والتهديد والوعيد الغليظ، فتوجّه نحو السّحرة و (قال آمنتم له قبل أن آذن لكم). إنّ هذا الجبّار المستكبر لم يكن يدّعي الحكومة على أجسام وأرواح الناس وحسب، بل كان يريد أن يقول: إنّ قلوبكم تحت تصرّفي أيضاً، ويجب على أحدكم إذا أراد أن يصمّم على أمر ما أن يستأذنني، وهذا هو العمل الذي يؤكّد عليه كلّ الفراعنة على إمتداد العصور. فالبعض - كفرعون مصر - يجريها على لسانه حمقاً عند إضطرابه وقلقه، والبعض إحتفظ بهذا الحقّ لنفسه ويبيّنه بصورة غير مباشرة عن طريق وسائل الإعلام، وطوابير العملاء، ويعتقد بأنّ الناس يجب أن لا يعطوا الإستقلالية في التفكير، بل إنّه في بعض الأحيان قد يسلب الناس الحرية باسم حرية التفكير. وعلى كلّ حال، فإنّ فرعون لم يكتف بذلك، بل إنّه ألصق بالسّاحرين التهمة وقال: (إنّه لكبيركم الذي علّمكم السحر). لا شكّ أنّ فرعون كان على يقين ومعرفة تامّة بكذب كلامه وبطلانه، ولم يكن بالإمكان أن تحدث مثل هذه المؤامرة في جميع أنحاء مصر ويجهل جنوده وشرطته بالأمر، وكان فرعون قد ربّى موسى (ع) في أحضانه، وغيبته عن مصر كانت من المسلّمات لديه، فلو كان كبير سحرة مصر لكان معروفاً بذلك في كلّ مكان، ولا يمكن أن يخفى أمره. إلاّ أنّا نعلم أنّ الطغاة لا يتورّعون عن إلصاق أي كذب وتهمة بخصومهم عندما يرون مركزهم الذي حصلوا عليه بغير حقّ يتعرّض للخطر. ثمّ إنّه لم يكتف بهذا، بل إنّه هدّد السّحرة أشدّ تهديد، التهديد بالموت، فقال: (فلاُقطّعنّ أيديكم وأرجلكم من خلاف ولأصلبنّكم في جذوع النخل ولتعلمنّ أيّنا أشدّ عذاباً وأبقى)(1). في الحقيقة إنّ جملة (أيّنا أشدّ عذاباً) إشارة إلى تهديد موسى (ع) له من قبل، وكذلك تهديده للسحرة في البداية (ويلكم لا تفتروا على الله كذباً فيسحتكم بعذاب). والتعبير بـ(من خلاف) إشارة إلى قطع اليد اليمنى مع الرجل اليسرى أو بالعكس، وربّما كان إختيار هذا النوع من التعذيب للسحرة، لأنّ موت الإنسان يكون أكثر بطأً وأشدّ عذاباً في هذه الحالة، أي أنّ النزيف سيكون أبطأ، وسيعانون عذاباً أشدّ، وربّما أراد أن يقول: سأجعل بدنكم ناقصاً من جانبيه. أمّا التهديد بالصلب على جذوع النخل، فربّما كان لأنّ النخلة تعدّ من الأشجار العالية، وكلّ شخص - سواء البعيد أو القريب - يرى المعلّق عليها. والملاحظة التي تستحقّ الذكر أنّ الصلب في عرف ذلك الزمان لم يكن كما هو المتعارف عليه اليوم، فلم يكونوا يضعون حبل الإعدام في رقبة من يريدون صلبه، بل كانوا يشدّون به الأيادي أو الأكتاف حتّى يموت المصلوب بعد تحمّل العذاب الشديد. لكن نرى ماذا كان ردّ فعل السّحرة تجاه تهديدات فرعون الشديدة؟ إنّهم لم يخافوا ولم يهربوا من ساحة المواجهة، أثبتوا صمودهم في الميدان بصورة قاطعة، و (قالوا لن نؤثرك على ما جاءنا من البيّنات والذي فطرنا فاقض ما أنت قاض)لكن، ينبغي أن تعلم بأنّك تقدر على القضاء في هذه الدنيا، أمّا في الآخرة فنحن المنتصرون، وستلاقي أنت أشدّ العقاب (إنّما تقضي هذه الحياة الدنيا). وعلى هذا، فإنّهم قد بيّنوا هذه الجمل الثلاث الراسخة أمام فرعون: الأُولى: إنّنا قد عرفنا الحقّ وإهتدينا، ولا نستبدله بأي شيء. والاُخرى: إنّنا لا نخاف من تهديداتك مطلقاً. والثّالثة: حكومتك وسعيك سوف يدومان إلاّ أيّاماً قليلة من الدينا! ثمّ أضافوا بأنّا قد إرتكبنا ذنوباً كثيرة نتيجة السحر، فـ(إنّا آمنا بربّنا ليغفر لنا خطايانا وما أكرهتنا عليه من السحر والله خير وأبقى) وخلاصة القول: إنّ هدفنا هو الطهارة من الذنوب الماضية، ومن جملتها محاربة نبي الله الحقيقي، فنحن نريد أن نصل عن هذا الطريق إلى السعادة الأبدية، فإذا كنت تهدّدنا بالموت في الدنيا، فإنّنا نتقبّل هذا الضرر القليل في مقابل ذلك الخير العظيم! وهنا ينقدح سؤال، وهو: إنّ السّحرة قد أتوا بأنفسهم إلى حلبة الصراع ظاهراً، بالرغم من أنّ فرعون قد وعدهم وعوداً كبيرة، فكيف عبّرت الآية بالإكراه؟ ونقول في الجواب: إنّنا لا نملك أي دليل على أنّ السّحرة لم يكونوا مجبورين منذ البداية، بل إنّ ظاهر جملة (يأتوك بكلّ ساحر عليم)(2)، أنّ السّحرة العلماء بالفنّ كانوا ملزمين بقبول الدعوة، ومن الطبيعي أنّ هذا الأمر يبدو طبيعيّاً في ظلّ حكومة فرعون المستبدّة، بأن يجبر أفراداً في طريق تحقيق نيّاته، ووضع الجوائز وأمثال ذلك لا ينافي هذا المفهوم، لأنّنا رأينا - كثيراً - حكومات ظالمة مستبدّة تتوسّل بالترغيبات المادية إلى جانب إستعمال القوّة. ويحتمل أيضاً أنّ السّحرة عند أوّل مواجهة لهم مع موسى (ع) تبيّن لهم من خلال القرائن أنّ موسى (ع) على الحقّ، أو أنّهم على أقل تقدير وقعوا في شكّ، ونشب بينهم نزاع وجدال، كما نقرأ ذلك في الآية (62) من هذه السورة: (فتنازعوا أمرهم بينهم)، فأطلع فرعون وأجهزته على ما جرى، فأجبروهم على الإستمرار في المجابهة. ﴿قَالَ﴾ فرعون ﴿آمَنتُمْ لَهُ﴾ أي لموسى ﴿قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ﴾ في ذلك ﴿إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ﴾ رئيسكم أو أستاذكم ﴿الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ﴾ وتواطأتم على ما فعلتم ﴿فَلَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُم مِّنْ خِلَافٍ﴾ حال أي مختلفات الأيدي اليمنى والأرجل اليسرى ﴿وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ﴾ شبه تمكن المصلوب بالجذع بتمكن المظروف بالظرف ﴿وَلَتَعْلَمُنَّ أَيُّنَا﴾ يعني نفسه وموسى أو رب موسى ﴿أَشَدُّ عَذَابًا وَأَبْقَى﴾ وأدوم.