لا يوجد اتصال بالانترنت !
ستتم اعادة المحاولة بعد 10 ثواني ...
جاري التحميل ...
جنّات عدن تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها وذلك جزاء من تزكّى). وهناك بحث بين المفسّرين في أنّ الجمل الثلاث الأخيرة تابعة لكلام السّحرة أمام فرعون، أم أنّها جمل مستقلّة من جانب الله سبحانه جاءت تتمّة لكلامهم؟ فبعضهم إعتبرها تابعة لكلام السّحرة، وربّما كان الإبتداء بـ(انّه) التي هي في الواقع لبيان العلّة، يؤيّد وجهة النظر هذه. إلاّ أنّ التفصيل الذي جاء في هذه الآيات الثلاث حول مصير المؤمنين الصالحين، والكافرين المجرمين، الذي ينتهي بجملة (وذلك جزاء من تزكّى)وكذلك الأوصاف التي جاءت فيها حول الجنّة والنّار، تؤيّد الرأي الثّاني، وهو أنّها من كلام الله، لأنّ السّحرة ينبغي أن يكونوا قد تلقّوا حظّاً وافراً من المعرفة والعلوم الإلهيّة في هذه الفترة القصيرة بحيث يستطيعون أن يقضوا بهذا الجزم والقطع، وعن علم وإطّلاع ووعي من أمر الجنّة والنّار ومصير المؤمنين والمجرمين. إلاّ أن نقول: إنّ الله سبحانه قد أجرى هذا الكلام على ألسنتهم لإيمانهم، وإن كان هذا لا يفرّق عندنا ولا يختلف من ناحية التربية الإلهيّة والنتيجة سواءً كان الله تعالى قد قال ذلك، أو أنّ السّحرة قد تعلّموه من الله، خاصةً وأنّ القرآن ينقل كلّ ذلك بنغمة متناسقة. بحوث 1 - العلم أساس الإيمان والوعي إنّ أهمّ مسألة تلاحظ في الآيات - محلّ البحث - هي تحوّل السّحرة السريع العميق قبال موسى (ع)، فإنّهم عندما وقفوا بوجه موسى (ع) كانوا أعداء ألدّاء، إلاّ أنّهم اهتزّوا بشدّة عند مشاهدة أوّل معجزة من موسى، فانتبهوا وغيّروا مسيرهم حتّى أثاروا دهشة الجميع. إنّ هذا التغيير السريع من الكفر إلى الإيمان، ومن الإنحراف إلى الإستقامة، ومن الإعوجاج إلى الطريق المستقيم، ومن الظلمة إلى النور، قد جعل الجميع في دهشة، وربّما كان هذا الأمر غير قابل للتصديق حتّى من قبل فرعون نفسه، ولذا سعى إلى إيهام الناس بأنّ هذا الأمر قد دبّر من قبل، واتّفق عليه مسبقاً، في حين أنّه كان يعلم في أعماقه أنّ هذا الإتّهام كذب محض. أي عامل كان السبب في هذا التحوّل العميق السريع؟ وأي عامل أضاء قلوبهم بنور الإيمان الوهّاج، إلى درجة أبدوا إستعدادهم فيها لأن يضعوا كلّ وجودهم في خدمة هذا العمل، بل وضعوه فعلا على ما نقل التاريخ، لأنّ فرعون قد نفّذ تهديده، وقتل هؤلاء بطريقة وحشيّة؟ هل نجد هنا عاملا غير العلم والوعي؟ إنّ هؤلاء لمّا كانوا عالمين بفنون السحر وأسراره، وأيقنوا بوضوح تامّ أنّ عمل موسى لم يكن سحراً، بل هو معجزة إلهيّة، غيّروا مسيرهم بتلك الشجاعة والحزم، ومن هنا نعلم جيداً أنّه من أجل تغيير الأفراد المنحرفين، أو المجتمع المنحرف، وإيجاد إنقلاب في المسيرة ينبغي توعيتهم قبل كلّ شيء(3). 2 - لن نؤثرك على البيّنات ممّا يلفت النظر أنّ هؤلاء إختاروا أكثر التعابير منطقيّة إزاء فرعون وكلامه غير المنطقي، فقالوا أوّلا: إنّنا قد رأينا أدلّة واضحة على أحقّية موسى ودعوته الإلهيّة، وسوف لا نكترث بأي شيء ولا نقدّمه على هذه الدلالات البيّنة، وأكّدوا هذا الأمر فيما بعد بجملة (والذي فطرنا) وربّما كان هذا التعبير بحدّ ذاته - مع ملاحظة كلمة (فطرنا) - إشارة إلى ما هم عليه من الفطرة التوحيديّة، فكأنّهم قالوا: إنّنا نشاهد نور التوحيد من أعماق وجودنا وأرواحنا، وكذلك بالدليل العقلي، ومع هذه الآيات البيّنات كيف نستطيع أن نترك هذا الصراط المستقيم، ونسير في طريقك المنحرف؟ ويلزم الإلتفات إلى هذه النكتة أيضاً، وهي أنّ جمعاً من المفسّرين لم يعتبروا جملة (والذي فطرنا) قسماً، بل عدّوها عطفاً على (ما جاءنا من البيّنات) وبناءً على هذا سيصبح معنى الجملة: إنّنا سوف لن نؤثرك أبداً على هذه الأدلّة الجلية، وعلى الله الذي خلقنا. غير أنّ التّفسير الأوّل يبدو أقرب للصحّة، لأنّ عطف هاتين الجملتين بعضهما على بعض غير مناسب. "فلاحظوا بدقّة"! 3 - من هو المجرم؟ بملاحظة الآيات الشريفة التي تقول: (إنّه من يأت ربّه مجرماً فإنّ له جهنّم)والتي يظهر منها خلود العذاب، يتبادر هذا السؤال: تُرى هل لكلّ مجرم هذا المصير؟ إلاّ أنّه بالإلتفات إلى أنّ الآية التالية قد بيّنت النقطة المقابلة لذلك، وجاءت فيها كلمة "المؤمن" يتّضح أنّ المراد من المجرم هنا هو الكافر، إضافةً إلى أنّه ورد في القرآن كثيراً إستعمال هذه الكلمة بمعنى الكافر. فمثلا نقرأ في شأن قوم لوط الذين لم يؤمنوا بنبيّهم أبداً: (وأمطرنا عليهم مطراً فانظر كيف كان عاقبة المجرمين)،(4) ونقرأ في سورة الفرقان في الآية 31: (وكذلك جعلنا لكلّ نبي عدوّاً من المجرمين). 4 - جبر البيئة خرافة تبيّن قصّة السّحرة في الآيات المذكورة أنّ القول بأنّ البيئة تُملي أو تفرض على صاحبها مساره في الحياة ليس سوى وهم فارغ، فإنّ الإنسان فاعل مختار، وصاحب إرادة حرّة، فإذا صمّم في أي وقت فإنّه يستطيع أن يغيّر مسيره من الباطل إلى الحقّ، حتّى لو كان كلّ الناس في تلك البيئة غارقين في الذنوب والضلال، فالسّحرة الذين كانوا لسنين طويلة في ذلك المحيط الملوّث بالشرك، وكانوا يرتكبون بأنفسهم ويعملون الأعمال المتوغّلة في الشرك عندما صمّموا على قبول الحقّ والثبات عليه بعشق، لم يخافوا أي تهديد، وحقّقوا هدفهم، وعلى قول المفسّر الكبير العلاّمة الطبرسي: (كانوا أوّل النهار كفّاراً سحرة، وآخر النهار شهداء بررة)(5). ومن هنا يتّضح - أيضاً - مدى ضعف وعدم واقعيّة أساطير الماديين، وخاصةً الماركسيين حول نشأة الدين وتكوّنه، فإنّهم إعتبروا أساس كلّ حركة هو العامل الإقتصادي، في حين أنّ الأمر هنا كان بالعكس تماماً، لأنّ السّحرة قد حضروا حلبة الصراع نتيجة ضغط أجهزة فرعون من جانب، والإغراءات الإقتصادية من جانب آخر، إلاّ أنّ الإيمان بالله قد محا كلّ هذه الاُمور، فقد إنهار المال والجاه الذي وعدهم فرعون به عند أعتاب إيمانهم، ووضعوا أرواحهم العزيزة هديّة لهذا العشق! ﴿جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ جَزَاء مَن تَزَكَّى﴾ تطهر من الذنوب.