سبب النّزول
نقل عن الإمام الباقر (عليه السلام) أنّه قال: إنّ هذه الآية نزلت في أصحاب "الصفّة".
وهم جمع نحو أربعمائة شخص من مسلمي مكّة وأطراف المدينة ممّن لم يكن لهم مأوى يأوون إليه في المدينة، ولا قريب يؤويهم في منزله، فاتّخذوا من مسجد النبيّ منزلاً معلنين استعدادهم للذهاب إلى ميادين الجهاد دائماً، ولكن بما أنّ بقاءهم في المسجد لم يكن ينسجم مع شؤونه فقد أُمروا بالإنتقال إلى "صفّة" دكّة عريضة كانت خارج المسجد.
ونزلت الآية تحثّ المسلمين أن يغدقوا مساعداتهم على إخوتهم هؤلاء فأعانوهم(1).
صرّح بعض المفسّرين: "لقد كان هذا الوصف الموحي ينطبق على جماعة من المهاجرين، تركوا وراءهم أموالهم وأهليهم; وأقاموا في المدينة ووقفوا أنفسهم على الجهاد في سبيل الله، وحراسة رسول الله (ص) كأهل الصفة الذين كانوا بالمسجد حرساً لبيوت الرسول (ص) لا يخلص إليها من دونهم عدو..."(2)
التّفسير
خير مواضع الإنفاق:
يبيّن الله في هذه الآية أفضل مواضع الإنفاق، وهي التي تتّصف بالصفات التالية:
1- (للفقراء الذين أُحصروا في سبيل الله) أي الذين شغلتهم الأعمال الهامّة كالجهاد ومحاربة العدو، وتعليم فنون الحرب، وتحصيل العلوم الأُخرى، عن العمل في سبيل الحصول على لقمة العيش كأصحاب الصفّة الذين كانوا خير مصداق لهذا الوصف(3).
ثمّ للتأكيد تضيف الآية: (لا يستطيعون ضرباً في الأرض) أي الذين لا يقدرون على الترحال لكسب العيش بالسفر إلى القرى والمدن الاُخرى حيث تتوفر نِعم الله تعالى.
وعليه فإنّ القادرين على كسب معيشتهم يجب أن يتحمّلوا عناء السفر في سبيل ذلك وأن لا يستفيدوا من ثمار أتعاب الآخرين إلاَّ إذا كانوا منشغلين بعمل أهمّ من كسب العيش كالجهاد في سبيل الله.
2ـ الذين (يحسبُهم الجاهل أغنياء من التعفّف) هؤلاء الذين لا يعرف الآخرون شيئاً عن بواطن أُمورهم، ولكنهم- لما فيهم من عفّة النفس والكرامة- يظنّون أنهم من الأغنياء.
ولكن هذا لايعني أنهم غير معروفين.
لذا تضيف الآية (تعرفهم بسيماهم).
السيماء: العلامة(4).
فهؤلاء وإن لم يفصحوا بشيء عن حالهم، فإنّ على وجوههم علامات تنطق بما يعانون يدركها العارفون، فلون وجناتهم ينبيء عمّا خفي من أسرارهم.
3- والثالث من صفات هؤلاء أنهم لايصرّون في الطلب والسؤال: (لا يسألون الناس إلحافاً)(5) أي أنّهم لا يشبهون الفقراء الشحّاذين الذين يلحّون في الطلب من الناس، فهم يمتنعون عن السؤال فضلاً عن الإلحاف، فالإلحاح في السؤال شيمة ذوي الحاجات العاديّين، وهؤلاء ليسوا عاديّين.
وقول القرآن إنّهم لا يلحفون في السؤال لا يعني أنّهم يسألون بدون إلحاف، بل يعني أنّهم ليسوا من الفقراء العاديّين حتّى يسألوا، ولذلك لا تتعارض هذه الفقرة من الآية مع قوله تعالى: (تعرفهم بسيماهم)لأنّهم لا يُعرفون بالسؤال.
ثمّة احتمال آخر في تفسير الآية، وهو أنّهم إذا اضطرّتهم الحالة إلى إظهار عوزهم فإنّهم لا يلحفون في السؤال أبداً، بل يكشفون عن حاجتهم باسلوب مؤدّب أمام إخوانهم المسلمين.
(وما تنفقون من خير فإنّ الله به عليم).
في هذه الآية حثّ على الإنفاق، وعلى الأخصّ الإنفاق على ذوي النفوس العزيزة الأبية، لأنّ المنفقين إذا علموا أنّ الله عالم بما ينفقون حتّى وإن كان سرّاً وأنّه سوف يثيبهم على ذلك، فستزداد رغبتهم في هذا العمل الكبير.
بحث
الاستجداء بدون حاجة حرام:
إنّ أحد الذنوب الكبيرة هو السؤال والاستجداء والطلب من الناس من دون حاجة، لذلك وقد ورد في روايات متعدّدة النهي عن هذا العمل بشدّة، ففي الحديث عن رسول الله (ص) يقول: "لا تحل الصدقة لغني".
وورد في حديث آخر عنه (ص) أنّه قال: "من سأل وعنده ما يغنيه فإنّما يستكثر من جمرة جهنّم"(6) وكذلك ورد في الأحاديث الشريفة "أنّه لا تقبل شهادة من يسأل الناس بكفّه"(7).
﴿لِلْفُقَرَاء﴾ أي أعمدوا، أو صدقاتكم للفقراء ﴿الَّذِينَ أُحصِرُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ﴾ أحصرهم الجهاد ﴿لاَ يَسْتَطِيعُونَ﴾ لاشتغالهم به ﴿ضَرْبًا﴾ ذهابا ﴿فِي الأَرْضِ﴾ للكسب وقيل هم أهل الصفة وهم نحو من أربعمائة من فقراء المهاجرين كانوا في صفة المسجد دأبهم التعلم والعبادة والخروج في كل سرية يبعثها النبي ﴿يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ﴾ يخالهم ﴿أَغْنِيَاء مِنَ التَّعَفُّفِ﴾ من جهة امتناعهم عن المسألة ﴿تَعْرِفُهُم بِسِيمَاهُمْ﴾ من صفرة الوجوه ورثاثة الحال ﴿لاَ يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافًا﴾ إلحاحا ﴿وَمَا تُنفِقُواْ مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللّهَ بِهِ عَلِيمٌ﴾ ترغيب في الإنفاق.