لا يوجد اتصال بالانترنت !
ستتم اعادة المحاولة بعد 10 ثواني ...
جاري التحميل ...
إلاّ أنّ بني إسرائيل تمسكّوا بهذا العجل عناداً، ولم يؤثّر فيهم المنطق السليم القوي لهذا الرجل، ولا أدلّة هذا القائد الحريص، وأعلنوا مخالفتهم بصراحة: (قالوا لن نبرح عليه عاكفين حتّى يرجع إلينا موسى)(4). والخلاصة: إنّهم ركبوا رؤوسهم وقالوا: الأمر هو هذا ولا شيء سواه، ويجب أن نعبد العجل حتّى يرجع موسى ونطلب منه الحكم والقضاء، فلعلّه يسجد معنا للعجل! وعلى هذا فلا تتعب نفسك كثيراً، وكفّ عنّا يدك! وبهذا لم يذعن بنو إسرائيل لأمر العقل ولا لأمر خليفة قائدهم وزعيمهم أيضاً. ولكن، كما كتب المفسّرون - والقاعدة تقتضي ذلك أيضاً - فإنّ هارون لمّا أدّى رسالته في هذه المواجهة، ولم يقبل أكثر بني إسرائيل كلامه، إبتعد عنهم بصحبة القلّة الذين اتّبعوه، لئلاّ يكون إختلاطهم بهؤلاء دليلا على إمضاء طريقهم المنحرف. والعجيب أنّ بعض المفسرين ذكروا أنّ هذا التبدّل والإنحراف في بني إسرائيل قد حدث في أيّام قليلة فحسب، فبعد أن مضت (35) يوماً على ذهاب موسى (ع) إلى ميقات ربّه، شرع السامري بعمله، وطلب من بني إسرائيل أن يجمعوا كلّ أدوات الزينة التي أخذوها كعارية من الفراعنة وما أخذوه منهم بعد غرقهم، ووضعوها جميعاً في اليوم السادس والثلاثين والسابع والثلاثين والثامن والثلاثين في موقد النّار، وأذابوها ثمّ صنعوا منها تمثال العجل، وفي اليوم التاسع والثلاثين دعاهم السامري إلى عبادته، فقبلها جماعة عظيمة - وعلى بعض الرّوايات ستمائة ألف شخص - وفي اليوم التالي، أي في نهاية الأربعين يوماً، رجع موسى(5). ولكن إفترق عنهم هارون مع القلّة من المؤمنين الثابتين، والذين كان عددهم قرابة إثني عشر ألفاً، في حين أنّ الأغلبية الجاهلة كادوا أن يقتلوه! بحوث 1 - شوق اللقاء! قد يكون قول موسى (ع) في جواب سؤال الله تعالى له حول إستعجاله إلى الميقات حيث قال: (وعجّلت إليك ربّ لترضى) عجيباً لدى من لم يعرف شأن جاذبية عشق الله، إلاّ أنّ الذين أدركوا هذه الحقيقة بكلّ وجودهم، والذين إذا إقترب موعد الوصال إشتدّ لهيب العشق في أفئدتهم، يعلمون جيداً أيّة قوّة خفيّة كانت تجرّ موسى (ع) إلى ميقات الله، وكان يسير سريعاً بحيث تخلّف عنه قومه الذين كانوا معه. لقد كان موسى (ع) قد تذوّق حلاوة الوصال والحبّ والمناجاة مع الله مراراً، فكان يعلم أنّ كلّ الدنيا لا تعدل لحظة من هذه المناجاة. أجل .. هذا هو طريق الذين تجاوزوا مرحلة العشق المجازي نحو مرحلة العشق الحقيقي .. عشق المعبود الأزلي المقدّس والكمال المطلق، والحسن واللطف الذي لا نهاية له، وكلّ ما عند المحسنين الصالحين جميعاً عنده بمفرده، بل إنّ جمال وحسن المحسنين كلّه ومضة بسيطة من إحسانه الدائم الخالد. فيا إلهنا الكبير مُنّ علينا بذرّة من هذا العشق المقدّس. يقول الإمام الصادق (ع) - كما روي عنه - "المشتاق لا يشتهي طعاماً، ولا يلتذّ شراباً، ولا يستطيب رقاداً، ولا يأنس حميماً، ولا يأوي داراً ... ويعبد الله ليلا ونهاراً، راجياً بأن يصل إلى ما يشتاق إليه ... كما أخبر الله عن موسى بن عمران في ميعاد ربّه بقوله: وعجّلت إليك ربّ لترضى"(6). 2 - الحركات المناوئة لنهضة الأنبياء! من الطبيعي أن توجد في مقابل كلّ ثورة حركة مضادّة تسعى إلى تحطيم نتائج الثورة، وإلى إرجاع المجتمع إلى مرحلة ما قبل الثورة، وليس سبب ذلك معقدّاً ولا غامضاً، لأنّ إنتصار ثورة ما لا يعني فناء كلّ العناصر الفاسدة من الفترة السابقة دفعة واحدة، بل تبقى حثالات منهم تبدأ نشاطها من أجل الحفاظ على وجودها وكيانها، ومع إختلاف ظروف ومقدار وكيفيّة هؤلاء، فإنّهم يقومون بأعمال تناهض الثورة سرّاً أمّ علانية. وفي حركة موسى بن عمران الثورية نحو توحيد وإستقلال وحرية بني إسرائيل، كان السامري زعيم هذه الحركة الرجعيّة المضادّة، فقد كان عالماً - كبقيّة قادة الحركات الرجعيّة - بنقاط ضعف قومه جيداً، وكان يعلم أنّه قادر على أن يستغلّ هذه النقاط فيثير الفتنة فيهم، فسعى أن يصنع من أدوات الزينة والذهب التي هي آلهة عبيد الدنيا، وتجلب إهتمام عوام الناس، عجلا على هيئة خاصة، وجعله في مسير حركة الريح - أو بالإستعانة بأيّة وسيلة أُخرى - ليخرج منه صوت. وذلك بإنتهاز فرصة مناسبة - وهي غيبة موسى لعدّة أيّام - ونظراً إلى أنّ بني إسرائيل بعد النجاة من الغرق، ومرورهم على قوم يعبدون الأصنام، طلبوا من موسى صنماً; والخلاصة أنّهّ استغلّ كلّ نقاط الضعف النفسي، والفرص المكانية والزمانية المناسبة، وبدأ خطّته المضادّة للتوحيد. وقد نظّم هذه المواد بمهارة فائقة بحيث حرّف في مدّة قصيرة أغلبية الجهلة من بني إسرائيل عن خطّ التوحيد إلى طريق الشرك. وبالرغم من أنّ هذه الخطّة قد أُحبطت بمجرّد رجوع موسى وقوّة إيمانه ومنطقه بنور الوحي، ولكن إذا لم يرجع موسى فماذا كان سيحدث؟ إنّهم إمّا كانوا سيقتلون أخاه هارون حتماً، أو سيحجمونه بحيث لا يصل صوته إلى أحد. أجل .. إنّ كلّ ثورة تحارب في البداية بهذه الصورة، فيجب الحذر دائماً، ومراقبة تحرّكات الشرك الرجعية، والقضاء على المؤامرات وهي في وكرها ومهدها. وكذلك يجب الإلتفات إلى هذه الحقيقة، وهي أنّ كثيراً من الثورات الحقيقيّة تعتمد في البداية - ولأسباب مختلفة - على فرد أو أفراد معينين، بحيث أنّهم إذا فقدوا وغابوا عن الساحة سيعود الخطر ويهدّد الثورة من جديد، ولذلك يجب السعي من أجل خلق الموازين الثقافية الثورية في عمق المجتمع بأسرع ما يمكن، وكذلك تربية الناس بشكل لا تهزّهم العواصف المضادّة للثورة، بل يقفون كالجبل الأصمّ أمام كلّ حركة رجعيّة متخلّفة. وبتعبير آخر، فإنّ واحدة من وظائف القادة المخلصين أن ينقلوا الموازين والمعايير منهم إلى المجتمع، ولا شكّ أنّ هذا الأمر المهمّ يحتاج إلى مضي زمان، إلاّ أنّه يجب السعي لإختصار هذا الزمن إلى أقلّ ما يمكن. أمّا من كان السامري؟ وكيف كانت عاقبة أمره؟ فسنتحدّث عنه في الآيات المقبلة إن شاء الله تعالى. 3 - مراحل القيادة لا شكّ أنّ هارون (ع) لم يأل جهداً في أداء رسالته عند غياب موسى (ع)، إلاّ أنّ جهل الناس من جهة، وترسبّات مرحلة العبودية والرقّ وعبادة الأصنام من جهة أُخرى، قد أفشلت جهوده، فهو قد نفّذ واجبه - حسب الآيات محل البحث - على أربع مراحل: الأُولى: إنّه نبّه هؤلاء وأعلمهم أنّ هذا العمل يشكّل تيار إنحرافي، وهو موضع إختبار خطير للجميع لتصحو العقول الغافلة، وليعي الناس ويفكّروا لئلاّ يُغلبوا على أمرهم، إذ قال لهم: (ياقوم إنّما فتنتم به). الثّانية: إنّه ذكرهم بنعم الله المختلفة عليهم منذ بدء ثورة موسى (ع) إلى زمان نجاتهم من قبضة الفراعنة، خاصّةً وإنّه وصف الله بصفة رحمته العامّة، ليكون الأثر أعمق، وليؤمل هؤلاء في غفران هذا الذنب الكبير: (وإنّ ربّكم الرحمن). الثّالثة: إنّه نبهّهم على مقام نبوّته وخلافته لأخيه موسى (فاتّبعوني). وأخيراً فإنّه عرفهم بواجباتهم الإلهيّة (وأطيعوا أمري). 4 - سؤال وجواب؟ لقد أورد المفسّر المعروف "الفخر الرازي" هنا إشكالا وهو ينتظر جوابه والردّ عليه وهو أنّه قال: إنّ الرافضة تمسّكوا بقوله (صلى الله عليه وآله وسلم) لعلي "أنت منّي بمنزلة هارون من موسى" ثمّ إنّ هارون ما منعته التقيّة في مثل هذا الجمع، بل صعد المنبر وصرّح بالحقّ ودعا الناس إلى مبايعة نفسه والمنع من متابعة غيره، فلو كانت اُمّة محمّد (صلى الله عليه وآله وسلم) على الخطأ لكان يجب على علي (ع) أن يفعل ما فعله هارون وأن يصعد على المنبر من غير تقيّة ولا خوف وأن يقول: فاتّبعوني وأطيعوا أمري. فلمّا لم يفعل ذلك علمنا أنّ الاُمّة كانت على الصواب. إلاّ أنّ الرازي غفل في هذا الباب عن مسألتين أساسيتين: 1 - إنّ ما يقوله من أنّ علياً (ع) لم يقل شيئاً في شأن خلافته التي لا ينازع فيها خطأ محض، لأنّ في أيدينا وثائق كثيرة تؤكّد أنّ الإمام قد بيّن هذا الموضوع في موارد مختلفة، تارةً بصراحة، وأُخرى تلميحاً، وتلاحظ في نهج البلاغة أمثلةً مختلفة كالخطبة الشقشقية - الخطبة الثّالثة - والخطبة 87، 94، 154، 147، وكلّها تتحدّث في هذا المجال. وقد ذكرنا في تفسيرنا هذا ذيل الآية (67) من سورة المائدة بعد ذكر قصّة الغدير، روايات عديدة، وأنّ عليّاً (ع) قد إستدلّ وإستند إلى حديث الغدير مراراً لإثبات موقعه وخلافته. ولمزيد التوضيح راجع ذيل الآية (67) من سورة المائدة. 2 - لقد كانت هناك ظروف خاصّة بعد وفاة النّبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، فإنّ المنافقين الذين كانوا يعدّون الأيّام يوماً بعد يوم وهم يترقّبون وفاة النّبي وكانوا قد أعدّوا أنفسهم ليطعنوا الإسلام الفتيّ طعنةً نجلاء، ولذا نرى أنّ أصحاب الردّة - المناوئين للإسلام - قد ثاروا مباشرةً في زمان أبي بكر، ولولا إتّحاد المسلمين وفطنتهم وحذرهم لكان من الممكن أن ينزلوا بالإسلام ضربات قاسية، ومن أجل ذلك سكت علي (ع) عن حقّه لئلاّ يستغلّ العدو هذا الأمر. ثمّ إنّ هارون - مع أنّ موسى كان على قيد الحياة - قال بصراحة ردّاً على ملامة أخيه له على تقصيره: (إنّي خشيت أن تقول فرّقت بين بني إسرائيل)(7) وهو يوحي بأنّه أيضاً قد تراجع بعض الشيء نتيجة الخوف من الإختلاف. ﴿قَالُوا لَن نَّبْرَحَ عَلَيْهِ عَاكِفِينَ﴾ على عبادته مقيمين ﴿حَتَّى يَرْجِعَ إِلَيْنَا مُوسَى﴾.