وبعد الإنتهاء من محادثة أخيه هارون وتبرئة ساحته، بدأ بمحاكمة السامري: لماذا فعلت ما فعلت، وما هدفك من ذلك؟: (قال فما خطبك ياسامري)؟ فأجابه و (قال بصرت بما لم يبصروا فقبضت قبضة من أثر الرّسول فنبذتها وكذلك سوّلت لي نفسي).
تُرى ما كان مقصود السامري من كلامه هذا؟! للمفسّرين قولان مشهوران ...
الأوّل: إنّ مراده هو: إنّني رأيت جبرئيل على فرس، عند مجيء جيش فرعون إلى ساحل البحر، يرغّب ذلك الجيش في المسير في تلك الطرق اليابسة في البحر، وكان يسير أمامهم، فقبضت شيئاً من تراب قدمه، أو "مركبه" وأدّخرته لهذا اليوم، فألقيته داخل العجل الذهبي، وما هذا الصوت إلاّ من أثر ذلك التراب الذي أخذته.
الثّاني: إنّني آمنت - بداية الأمر - بقسم من آثار الرّسول (موسى)، ثمّ شككت فيها فألقيتها بعيداً وملت إلى عبادة الأصنام، وكان هذا عندي أجمل وأحلى.
فعلى التّفسير الأوّل فإنّ كلمة "الرسول" تعني جبرئيل، وعلى التّفسير الثّاني تعني "موسى" (ع).
"والأثر" في التّفسير الأوّل بمعنى تراب القدم، وفي الثّاني يعني بعض تعليمات موسى (ع).
و "نبذتها" على التّفسير الأوّل بمعنى إلقاء التراب داخل العجل، وعلى الثّاني ترك تعليمات موسى (ع).
وأخيراً فإن (بصرت بما لم يبصروا) تشير - طبق التّفسير الأوّل إلى جبرئيل الذي كان قد تجلّى في هيئة فارس - وربّما رآه بعض آخر لكنّهم لم يعرفوه - إلاّ أنّها تشير - وفقاً للتفسير الثّاني إلى ما كان لديه من معلومات خاصّة عن دين موسى (ع).
وعلى كلّ حال، فإنّ لكلّ واحد من هذين التّفسيرين أنصاراً، وله نقاط واضحة أو مبهمة، لكن - كمحصّلة نهائية - يبدو أنّ التّفسير الثّاني هو الأفضل والأنسب من عدّة جهات، خاصّة وأنّا نقرأ في حديث ورد في كتاب (الإحتجاج) إنّ أمير المؤمنين علياً (ع) لمّا فتح البصرة أحاط الناس به - وكان من بينهم "الحسن البصري" وقد جلبوا معهم ألواحاً يكتبون فيها ما يقوله أمير المؤمنين علي (ع)، فقال له أمير المؤمنين بأعلى صوته: "ما تصنع؟" قال: أكتب آثاركم لنحدّث بها بعدكم، فقال أمير المؤمنين: "أما إنّ لكلّ قوم سامرياً، وهذا سامري هذه الاُمّة! إلاّ أنّه لا يقول: لا مساس، ولكنّه يقول: لا قتال"(2).
ويستفاد من هذا الحديث أنّ السامري كان رجلا منافقاً، فإن توسّل لإغواء الناس وإضلالهم ببعض المطالب والمقولات الصحيحة التي تعلّمها سابقاً، وهذا المعنى ينسجم والتّفسير الثّاني أكثر.
﴿قَالَ فَمَا خَطْبُكَ﴾ شأنك الذي حملك على ما صنعت ﴿يَا سَامِرِيُّ﴾.