من الواضح أنّ جواب السامري عن سؤال موسى (ع) لم يكن مقبولاً بأي وجه، ولذلك فإنّ موسى (ع) أصدر قرار الحكم في هذه المحكمة، وحكم بثلاثة أحكام عليه وعلى عجله، فأوّلا: (قال فاذهب فإنّ لك في الحياة أن تقول لا مساس) أي يجب عليك الإبتعاد عن الناس وعدم الإتّصال بهم إلى آخر العمر، فكلّما أراد شخص الإقتراب منك، فعليك أن تقول له: لا تتّصل بي ولا تقربني.
وبهذا الحكم الحازم طرد السامري من المجتمع وجعله في عزلة تامّة.
منزوياً بعيداً عنهم!
قال بعض المفسّرين: إنّ جملة (لا مساس) إشارة إلى أحد القوانين الجزائية في شريعة موسى (ع) التي كانت تصدر في حقّ من يرتكب جريمة كبيرة، وكان ذلك الفرد يبدو كموجود شرّير نجس قذر، فلا يقربه أحد ولا يقرب أحداً(3).
فاضطرّ السامري بعد هذه الحادثة أن يخرج من جماعة بني إسرائيل ويترك دياره وأهله، ويتوارى في الصحراء، وهذا هو جزاء الإنسان الذي يطلب الجاه ويريد إغواء جماعة عظيمة من المجتمع ببدعه وأفكاره الضالّة، ويجمعهم حوله، ويجب أن يُحرم مثل هذا ويعزل، ولا يتّصل به أيّ شخص، فإنّ هذا الطرد وهذه العزلة أشدّ من الموت والإعدام على مثل السامري وأضرابه.
لأنّه يعامل معاملة النجس الملوّث فيطرد من كلّ مكان.
وقال بعض المفسّرين: إنّ موسى دعا على السامري ولعنه بعد ثبوت جرمه وخطئه، فإبتلاه الله بمرض غامض خفي جعله ما دام حيّاً لا يمكن لأحد أن يمسّه، وإذا مسّه فسيبتلى بالمرض.
أو أنّ السامري قد اُبتلي بمرض نفسي ووسواس شديد، والخوف من كلّ إنسان، إذ كان بمجرّد أن يقترب منه أي إنسان يصرخ (لا تمسّني)(4).
والعقاب الثّاني: إنّ موسى (ع) قد أسمعه وأعلمه بجزائه في القيامة فقال: (وإنّ لك موعداً لن تخلفه)(5).
والثالث: (وانظر إلى إلهك الذي ظلت عليه عاكفاً لنحرقنّه ثمّ لننسفنّه في اليمّ نسفاً).
وهنا يأتي سؤالان:
الأوّل: إنّ جملة (لنحرقنّه) تدلّ على أنّ العجل كان جسماً قابلا للإشتعال، وهذا يؤيّد عقيدة من يقولون: إنّ العجل لم يكن ذهبيّاً، بل تبدّل إلى موجود حي بسبب تراب قدم جبرئيل.
ونقول في الجواب: إنّ ظاهر جملة (جسداً له خوار) هو أنّ العجل كان جسداً لا روح فيه، كان يخرج منه صوت يشبه خوار العجل بالطريقة التي قلناها سابقاً.
أمّا مسألة الإحراق فمن الممكن أن تكون لأحد سببين:
أحدهما: إنّ هذا التمثال لم يكن ذهبيّاً خالصاً، بل يحتمل أن يكون من الخشب، ثمّ طلي بالذهب.
والآخر: إنّه على فرض أنّه كان من الذهب فقط، فإنّ إحراقه كان للتحقير والإهانة وتعرية شكله الظاهري وإسقاطه، كما تكرّر هذا الأمر في تماثيل الملوك المستكبرين الجبابرة في عصرنا!
بناءً على هذا فإنّهم بعد حرقه كسروه قطعاً صغيرة بآلات معيّنة، ثمّ ألقوا ذرّاته في البحر.
والسؤال الآخر هو: هل يجوز إلقاء كلّ هذا الذهب في البحر، ألا يُعدّ إسرافاً؟
والجواب: قد يكون مثل هذا التعامل مع الأصنام واجباً في بعض الأحيان، إذا اُريد منه تحقيق هدف أهمّ وأسمى، كتحطيم وسحق فكرة عبادة الأصنام، لئلاّ يبقى بين الناس مادّة الفساد، وتكون باعثاً للوسوسة في صدور بعض الناس.
وبعبارة أوضح: فإنّ موسى (ع) لو أبقى الذهب الذي استُعمل في صناعة العجل، أو قسّمه بين الناس بالسويّة، فربّما نظر إليه الجاهلون يوماً ما نظرة تقديس، وتحيا فيهم من جديد فكرة عبادة العجل، فيجب أن تتلف هذه المادّة الغالية الثمن فداءً لحفظ عقيدة الناس، وليس هناك اُسلوب آخر لذلك وبهذا فإنّ موسى بطريقته الحازمة وتعامله الجازم الذي إتّخذه مع السامري وعجله إستطاع أن يقطع مادّة عبادة العجل، وأن يمحو آثارها من العقول، وسنرى فيما بعد كيف أثّر هذا التعامل القاطع مع عبّاد العجل في عقول بني إسرائيل(6).
﴿قَالَ فَاذْهَبْ﴾ طريدا ﴿فَإِنَّ لَكَ فِي الْحَيَاةِ﴾ أي ما دمت حيا ﴿أَن تَقُولَ﴾ لمن لقيته ﴿لَا مِسَاسَ﴾ أي لا تمسني وكان إذا مسه أحدهم ومن مسه أخذته الحمى فصار يهيم في البرية وحيدا يتحامى الناس ويتحامونه ﴿وَإِنَّ لَكَ مَوْعِدًا﴾ بعذابك ﴿لَّنْ تُخْلَفَهُ﴾ لن يخلف الله إياه في الآخرة وقرىء بكسر اللام أي لن تخلف الوعد إياه ﴿وَانظُرْ إِلَى إِلَهِكَ الَّذِي ظَلْتَ عَلَيْهِ عَاكِفًا﴾ ظللت على عبادته مقيما ﴿لَّنُحَرِّقَنَّهُ﴾ بالنار ﴿ثُمَّ لَنَنسِفَنَّهُ فِي الْيَمِّ نَسْفًا﴾ نذريه في البحر.