التّفسير
أسوأ ما يحملون على عاتقهم!
مع أنّ الآيات السابقة كانت تتحدّث حول تاريخ موسى وبني إسرائيل والفراعنة والسامري المليء بالحوادث، وقد بيّنت في طيّاتها بحوثاً مختلفة، فإنّ القرآن الكريم بعد الإنتهاء منها يستخلص نتيجة عامّة فيقول: (كذلك نقصّ عليك من أنباء ما قد سبق).
ثمّ يضيف (وقد آتيناك من لدنا ذكراً) قرآناً مليئاً بالدروس والعبر، والأدلّة العقليّة، وأخبار الماضين وما ينبّه المقبلين ويحذّرهم.
إنّ قسماً مهمّاً من القرآن المجيد يبيّن تاريخ وقصص الماضين، وذكر كلّ هذه الوقائع التاريخيّة التي جرت على السابقين في القرآن الذي هو كتاب يهتمّ بتربية الإنسان ليس أمراً إعتباطيّاً عبثيّاً، بل الغاية منه الإستفادة من الأبعاد المختلفة في تأريخ هؤلاء، عوامل الإنتصار والهزيمة، والسعادة والشقاء، والإستفادة من التجارب الكثيرة المخفية في طيّات تاريخ اُولئك السابقين.
وبصورة عامّة، فإنّ من أكثر العلوم إطمئناناً وواقعيّة هي العلوم التجريبيّة التي تخضع للتجارب في المختبر، وتظهر نتائجها الدقيقة.
والتأريخ مختبر كبير لحياة البشر، وفي هذا المختبر سرّ شموخ الاُمم وسقوطها، نجاحها وفشلها، سعادتها وتعاستها، فكلّها وضعت تحت التجربة وظهرت نتائجها أمام أعيننا، ونحن نستطيع بالإستفادة من تلك التجارب أن نتعلّم قسماً من معارفنا الأكثر إطمئناناً في مجال اُمور حياتنا.
وبتعبير آخر، فإنّ حاصل حياة الإنسان - من جهة - هو التجربة، ولا شيء غيرها، والتاريخ - إذا كان خالياً من كلّ أشكال التحريف - هو حاصل حياة آلاف السنين من عمر البشر جمعت في مكان واحد في متناول الباحثين والدارسين.
ولهذا السبب يؤكّد أمير المؤمنين علي (ع) في مواعظه الحكيمة لولده الإمام الحسن (ع) على هذه النقطة بالذات، فيقول:
"أي بني، إنّي وإن لم أكن عمرت عمر من كان قبلي، فقد نظرت في أعمالهم، وفكّرت في أخبارهم، وسرت في آثارهم حتّى عدت كأحدهم، بل كأنّي بما أنتهي إليه من اُمورهم قد عمّرت مع أوّلهم إلى آخرهم، فعرفت صفو ذلك من كدره، ونفعه من ضرره، فاستخلصت لك من كلّ أمر نخيله"(1).
بناءً على هذا، فإنّ التاريخ مرآة يعكس الماضي، وحلقة تربط الحاضر بالماضي، ويوسّع ويطيل من عمر الإنسان بمقداره.
التأريخ معلّم يحكي لنا عن سرّ ورمز عزّة الاُمم وسقوطها، فيحذر الظالمين، ويجسّد المصير المشؤوم للظالمين السابقين الذين كانوا أشدّ منهم قوّة، ويبشّر رجال الحقّ ويدعوهم للإستقامة والثبات، ويحمسهم ويحفزّهم على المضي في مسيرهم.
التأريخ هو المشعل الذي يضيء مسير حياة البشر، ويفتح الطرق ويعبّدها لحركة الجيل الحاضر.
التأريخ مربّي الجيل الحاضر، وهم سيصنعون تأريخ الغدّ.
والخلاصة، فإنّ التأريخ أحد أسباب الهداية الإلهية.
ولكن ينبغي الإنتباه جيداً، فبمقدار ما يكون التأريخ الصحيح بنّاءً ملهماً مربّياً نجد أنّ التواريخ المزيّفة مدعاة للضلال والإنحراف، ومن هذا المنطلق فإنّ مرضى القلوب سعوا دائماً إلى تضليل البشر وصدّهم عن سبيل الله، بتحريف التأريخ، وينبغي أن لا ننسى أنّ التحريف في التأريخ كثير(2).
ويلزم بيان هذه الملاحظة أيضاً، وهي أنّ كلمة (ذكر) هنا، وفي آيات كثيرة أُخرى من آيات القرآن الكريم تشير إلى القرآن نفسه، لأنّ آياته سبب لتذكّر وتذكير البشر، والوعي والحذر.
﴿كَذَلِكَ﴾ كما قصصنا عليك قصة موسى ﴿نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنبَاء﴾ أخبار ﴿مَا قَدْ سَبَقَ﴾ مضى من الأمور والأمم تبصرة لك وتكثيرا لمعجزاتك ﴿وَقَدْ آتَيْنَاكَ مِن لَّدُنَّا ذِكْرًا﴾ أعطيناك من عندنا قرآنا فيه ذكر ما يحتاج إليه في الدنيا والدين.