لا يوجد اتصال بالانترنت !
ستتم اعادة المحاولة بعد 10 ثواني ...
جاري التحميل ...
التّفسير الربا في القرآن: في الآيات التي مضت كان الكلام على الإنفاق وبذل المال لمساعدة المحتاجين وفي سبيل رفاه المجتمع. وفي هذه الآيات يدور الكلام على الربا الذي يقف في الجهة المضادّة للإنفاق، والواقع هو أنّ هذه الآيات تكمل هدف الآيات السابقة، لأنّ تعاطي الربا يزيد من الفواصل الطبقية ويركّز الثروة في أيدي فئة قليلة، ويسبّب فقر الأكثرية، والإنفاق سبب طهارة القلوب والنفوس واستقرار المجتمع، والربا سبب البخل والحقد والكراهية والدنس. هذه الآيات شديدة وصريحة في منع الربا، ولكن يبدو منها أنّ موضوع الربا قد سبق التطرّق إليه. فإذا لاحظنا تاريخ نزول هذه الآيات تتّضح لنا صحّة ذلك، فبحسب ترتيب نزول القرآن، السورة التي ورد فيها ذكر الربا لأول مرّة هي سورة الروم، وهي السورة الثلاثون التي نزلت في مكّة، ولا نجد في غيرها من السور المكّية إشارة إلى الربا. لكن الحديث عن الربا في السورة المكّية جاء على شكل نصيحة أخلاقية (وما آتيتم من رباً ليربوا في أموال الناس فلا يربوا عند الله)(1). أي أنّ قصيري النظر قد يرون أنّ الثروة تزداد بالربا، ولكنّه لا يزداد عند الله. ثمّ بعد الهجرة، تناول القرآن الربا في ثلاث سور أُخرى من السور التي نزلت في المدينة وهي بالترتيب: سورة البقرة، وسورة آل عمران، وسورة النساء. وعلى الرغم من أنّ سورة البقرة قد نزلت قبل سورة آل عمران، فلا يُستبعد أن تكون الآية 130 من سورة آل عمران- وهي التي تحرّم الربا تحريماً صريحاً- قد نزلت قبل سورة البقرة والآيات المذكورة أعلاه. على كلّ حال، هذه الآية وسائر الآيات التي تخصّ الربا نزلت في وقت كان فيه تعاطي الربا قد راج بشدّة في مكّة والمدينة والجزيرة العربية حتّى غدا عاملاً مهمّاً من عوامل الحياة الطبقية، وسبباً من أهمّ أسباب ضعف الطبقة الكادحة وطغيان الأرستقراطية، لذلك فإنّ الحرب التي أعلنها القرآن على الربا تعتبر من أهمّ الحروب الإجتماعية التي خاضها الإسلام. يقول تعالى: (الذين يأكلون الربا لا يقومون إلاَّ كما يقوم الذي يتخبّطه(2) الشيطان من المس). فالآية تشبّه المرابي بالمصروع أو المجنون الذي لا يستطيع الإحتفاظ بتوازنه عند السير، فيتخبّط في خطواته. ولعلّ المقصود هو وصف طريقة "سير المرابين الإجتماعي" في الدنيا على اعتبار أنّهم أشبه بالمجانين في أعمالهم، فهم يفتقرون إلى التفكير الإجتماعي السليم، بل أنّهم لا يشخّصون حتّى منافعهم الخاصّة، وأنّ مشاعر المواساة والعواطف الإنسانية وأمثالها لا مفهوم لها في عقولهم إذ أنّ عبادة المال تسيطر على عقولهم إلى درجة أنّها تعميهم عن إدراك ما ستؤدّي إليه أعمالهم الجشعة الإستغلالية من غرس روح الحقد في قلوب الطبقات المحرومة الكادحة وما سيعقب ذلك من ثورات وانفجارات اجتماعية تعرض أساس الملكية للخطر، وفي مثل هذا المجتمع سينعدم الأمن والإستقرار، وستصادر الراحة من جميع الناس بمن فيهم هذا المرابي، ولذلك فإنّه يجني على نفسه أيضاً بعمله الجنوني هذا. ولكن بما أنّ وضع الإنسان في العالم الآخر تجسيد لأعماله في هذا العالم فيحتمل أن تكون الآية إشارة إلى المعنيين. أي أنّ الذين يقومون في الدنيا قياماً غير معتقّل وغير متوازن يخالطه اكتناز جنوني للثروة سسيحشرون يوم القيامة كالمجانين. الطريف الروايات والأحاديث تشير إلى كلا المفهومين. ففي حديث عن الإمام الصادق (عليه السلام) في تفسير هذه الآية أنّه قال: "آكل الربا لا يخرج من الدنيا حتّى يتخبّطه الشيطان"(3). وفي رواية أُخرى عن رسول الله (ص) بشأن تجسيد حال المرابين الذين لا يهمّهم غير مصالحهم الخاصّة، وما ستجرّه عليهم أموالهم المحرّمة قال: "لمّا أُسري بي إلى السماء رأيت قوماً يريد أحدهم أن يقوم فلا يقدر أن يقوم من عظم بطنه، فقلت: من هؤلاء يا جبرائيل! قال: هؤلاء الذين يأكلون الربا لا يقومون إلاَّ كما يقوم الذي يتخبّطه الشيطان من المس"(4). الحديث الأوّل يبيّن اضطراب الإنسان في هذه الدنيا، ويعكس الحديث الثاني حال المرابين في مشهد يوم القيامة، وكلاهما يرتبطان بحقيقة واحدة، فكما أنّ الإنسان المبطان الأكول يسمن بإفراط وبغير حساب، كذلك المرابون الذين يسمنون بالمال الحرام لهم حياة اقتصادية مريضة تكون وبالاً عليهم. سؤال: هل الجنون والصرع اللذين أشارت إليهما الآية المذكورة من عمل الشيطان، مع أننا نعلم أنّ الصرع والجنون من الأمراض النفسية التي لها أسباب معروفة في الغالب؟ الجواب: يرى بعضهم أنّ تعبير "مسّ الشيطان" كناية عن الأمراض النفسية والجنون، وهو تعبير كان شائعاً عند العرب، ولا يعني أنّ للشيطان تأثيراً فعلياً في روح الإنسان. ولكن مع ذلك لا يُستبعد أن يكون لبعض الأعمال الشيطانية التي يرتكبها الإنسان دون تروٍّ أثر يؤدّي إلى نوع من الجنون الشيطاني، أي يكون للشيطان على إثر هذه الأعمال فاعلية في الشخص يسبّب اختلال تعادله النفسي. ثمّ إنّ الأعمال الشيطانية الخاطئة إذا تكرّرت وتراكمت يكون أثرها الطبيعي هو أن يفقد الإنسان قدرته على تمييز السقيم من السليم والصالح من الطالح والتفكير المنطقي من المعوج. منطق المرابين: (ذلك بأنّهم قالوا إنّما البيع مثل الربا). هذه الآية تبيّن منطق المرابين فهم يقولون: ما الفرق بين التجارة والربا؟ ويقصدون أنّ كليهما يمثّلان معاملة تبادل بتراضي الطرفين واختيارهما. يقول القرآن جواباً على ذلك: (وأحلّ الله البيع وحرّم الربا) ولم يزد في ذلك شرحاً وتفصيلاً، ربما لوضوح الإختلاف: فأوّلاً: في صفقة البيع والشراء يكون كلا الطرفين متساويين بإزاء الربح والخسارة، فقد يربح كلاهما، وقد يخسر كلاهما، ومرّة يربح هذا ويخسر ذاك، ومرّة يخسر هذا ويربح ذاك، بينما في المعاملة الربوية لا يتحمّل المرابي أيّة خسارة، فكلّ الخسائر المحتملة يتحمّل ثقلها الطرف الآخر، ولذلك نرى المؤسّسات الربوية تتوسّع يوماً فيوماً، ويكبر رأسمالها بقدر اضمحلال وتلاشي الطبقات الضعيفة. وثانياً: في التجارة والبيع والشراء يسير الطرفان في "الإنتاج والإستهلاك"، بينما المرابي لا يخطو أيّة خطوة إيجابية في هذا المجال. وثالثاً: بشيوع الربا تجري رؤوس الأموال مجرى غير سليم وتتزعزع قواعد الإقتصاد الذي هو أساس المجتمع، بينما التجارة السليمة تجري فيها رؤوس الأموال في تداول سليم. ورابعاً: الربا يتسبّب في المخاصمات والمنازعات الطبقية، بينما التجارة السليمة لا تجرّ المجتمع إلى المشاحنات والصراع الطبقي. (فمن جاءه موعظة من ربّه فانتهى فَلَهُ ما سلف وأمره إلى الله). تقول الآية إنّ من بلغته نصيحة الله بتحريم الربا واتّعظ فله الأرباح التي أخذها من قبل "أي أنّ القانون ليس رجعياً" لأنّ القوانين الرجعية تولد الكثير من المشاكل والإضطرابات في حياة الناس، ولذلك فإنّ القوانين تنفّذ عادةً من تاريخ سنّها. وهذا لا يعني بالطبع أنّ للمرابين أن يتقاضوا أكثر من رؤوس أموالهم من المدينين بعد نزول الآية، بل المقصود إباحة ما جنوه من أرباح قبل نزول الآية. ثمّ يقول (وأمره إلى الله) أي أنّ النظر إلى أعمال هؤلاء يوم القيامة يعود إلى الله، وإن كان ظاهر الآية يدلّ على أنّ مستقبل هؤلاء من حيث معاقبتهم أو العفو عنهم غير واضح، ولكن بالتوجّه إلى الآية السابقة نفهم أنّ القصد هو العفو. ويظهر من هذا أنّ إثم الربا من الكبر بحيث إنّ حكم العفو عن الذين كانوا يتعاطونه قبل نزول الآية لا يذكر صراحة. وردت احتمالات اُخرى في معنى هذه الجملة، أعرضنا عن ذكرها كونها خلاف الظاهر(5). (ومن عاد فأُولئك أصحاب النار هم فيها خالدون). أي أنّ من يواصل تعاطي الربا على الرغم من كلّ تلك التحذيرات، فعليه أن ينتظر عذاباً أليماً في النار دائماً. إنّ العذاب الخالد لا يكون نصيب من آمن بالله. لكن الآية تعد المصرّين على الربا بالخلود في النار، ذلك لأنّهم بإصرارهم هذا يحاربون قوانين الله، ويلجّون في ارتكاب الإثم، وهذا دليل على عدم صحّة إيمانهم، وبالتالي فهم يستحقّون الخلود في النار. كما يمكن القول إنّ خلود العذاب هنا كما في الآية 93 من سورة النساء، يعني العذاب المديد الطويل الأمد لا الأبديّ الدائم. ﴿الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا﴾ يأخذونه وذكر الأكل لأنه أغلب منافع المال والربا الزيادة في المعاملة أصلا أو عوضا ﴿لاَ يَقُومُونَ﴾ إذا بعثوا من قبورهم ﴿إِلاَّ كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ﴾ إلا قياما كقيام المصروع بناء على زعمهم أن ﴿الشَّيْطَانُ﴾ يخبطه فيصرع ﴿مِنَ الْمَسِّ﴾ الجنون وهو على زعمهم أن الجني يمسه فيختلط عقله يعني أنهم ينهضون ويسقطون كالمصروعين لأنه تعالى أربى في بطونهم الربا فأثقلهم وتلك سيماهم في المحشر ﴿ذَلِكَ﴾ العقاب ﴿بِأَنَّهُمْ قَالُواْ إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا﴾ قاسوا أحدهما بالآخر وعكس التشبيه مبالغة كأنهم جعلوا الربا أصلا وقاسوا به البيع ﴿وَأَحَلَّ اللّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا﴾ رد لقياسهم إذ الأحكام تبع للحكمة ﴿فَمَن جَاءهُ مَوْعِظَةٌ﴾ بلغه وعظ ونهي ﴿مِّن رَّبِّهِ فَانتَهَىَ فَلَهُ مَا سَلَفَ﴾ أخذه قبل النهي لا يلزمه رده ﴿وَأَمْرُهُ إِلَى اللّهِ﴾ يحكم في شأنه ولا اعتراض لكم عليه أو يجازيه على انتهائه إن اتعظ لله تعالى ﴿وَمَنْ عَادَ﴾ بعد ما تبين له تحريمه استخفافا ﴿فَأُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ﴾ لكفرهم بتحليل ما حرم الله أو أريد به المكث الطويل.