ولمّا كانت طريقة القرآن غالباً هي بيان تطبيقي للمسائل، فإنّه بعد أن بيّن مصير الظالمين في ذلك اليوم، تطرّق إلى بيان حال المؤمنين فقال: (ومن يعمل من الصالحات وهو مؤمن فلا يخاف ظلماً ولا هضماً)(10).
التعبير بـ(من الصالحات) إشارة إلى أنّهم إن لم يستطيعوا أن يعملوا كلّ الصالحات فليقوموا ببعضها، لأنّ الإيمان بدون العمل الصالح كالشجرة بلا ثمرة، كما أنّ العمل الصالح بدون إيمان كالشجرة من دون جذر، إذ قد تبقى عدّة أيّام لكنّها تجفّ آخر الأمر، ولذلك ورد قيد (وهو مؤمن) بعد ذكر العمل الصالح في الآية.
قاعدة: لا يمكن أن يوجد العمل الصالح بدون إيمان، ولو قام بعض الأفراد غير المؤمنين - أحياناً - بأعمال صالحة، فلا شكّ أنّها ستكون ضئيلة ومحدودة وإستثنائية، وبتعبير آخر: فإنّ العمل الصالح من أجل أن يستمر ويتأصّل ويتعمّق يجب أن يروى من عقيدة سالمة وإعتقاد صحيح.
بحثان
1 - الفرق بين الظلم والهضم
قرأنا في الآية الأخيرة من الآيات محلّ البحث أنّ المؤمنين الصالحين لا يخافون ظلماً ولا هضماً، وقال بعض المفسّرين: إنّ "الظلم" إشارة إلى أنّ هؤلاء لا يخافون مطلقاً من أن يظلموا في تلك المحكمة العادلة ويؤاخذوا على ذنوب لم يرتكبوها و "الهضم" إشارة إلى أنّهم لا يخافون - أيضاً - نقصان ثوابهم، لأنّهم يعلمون أنّ ما يستحقّونه من الثواب يصل إليهم دون زيادة أو نقصان.
وإحتمل بعضهم أنّ الأوّل يعني أنّهم لا يخافون من محو حسناتهم، والثّاني إشارة إلى أنّهم لا يخافون نقصان حتّى مقدار قليل منها، لأنّ الحساب الإلهي دقيق جدّاً.
ويحتمل أيضاً أنّ للمؤمنين الصالحين زلاّت وهفوات أيضاً، وأنّ الكاتبين لا يكتبون أكثر ممّا صدر منهم، ولا ينقصون شيئاً من ثواب أعمالهم الصالحة.
إنّ التفاسير المتقدّمة لا تتقاطع فيما بينها، ويمكن أن تكون الجملة آنفة الذكر إشارة إلى كلّ هذه المعاني أيضاً.
2 - مراحل القيامة
وردت الإشارة في الآيات - محلّ البحث - إلى سلسلة من الحوادث التي تقع عند حلول القيامة وبعدها:
1 - رجوع الأموات إلى الحياة: (يوم ينفخ في الصور).
2 - جميع المجرمين وحشرهم: (نحشر المجرمين).
3 - تلاشي جبال الأرض، ثمّ تبعثرها في كلّ مكان، وإستواء سطح الأرض تماماً: (ينسفها ربّي نسفاً).
4 - إستماع الجميع لدعوة داعي الله، وإنقطاع جميع الأصوات: (يومئذ يتّبعون الداعي ...).
5 - عدم تأثير الشفاعة في ذلك اليوم بدون إذن الله: (يومئذ لا تنفع الشفاعة ...).
6 - إعداد الله تعالى جميع خلقه للحساب بعلمه المطلق غير المتناهي (يعلم ما بين أيديهم ...).
7 - خضوع الجميع في مقابل حكمه: (وعنت الوجوه للحي القيّوم ...).
8 - يأس الظالمين: (وقد خاب من حمل ظلماً).
9 - رجاء المؤمنين لطف الله ورحمته: (ومن يعمل من الصالحات وهو مؤمن...).
﴿وَمَن يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ﴾ بعض الطاعات ﴿وَهُوَ مُؤْمِنٌ﴾ إذ لا يصح طاعة غيره ﴿فَلَا يَخَافُ ظُلْمًا﴾ بزيادة سيئاته ﴿وَلَا هَضْمًا﴾ ينقص من حسناته.