التّفسير
أعذار متنوّعة:
تبدأ هذه السورة - كما أشرنا - بتحذير قوي شديد موجّه لعموم الناس، تحذير يهزّ الوجدان ويوقظ الغافلين، فتقول: (إقترب للناس حسابهم وهم في غفلة معرضون).
إنّ عمل هؤلاء يدلّ على أنّ هذه الغفلة عمّت كلّ وجودهم، وإلاّ فكيف يمكن للإنسان أن يؤمن بإقتراب الحساب .. الحساب الدقيق المتناهي في الدقّة، ومع كلّ ذلك لا يكترث بالاُمور ويرتكب أنواع الذنوب!!
كلمة (إقترب) لها دلالة على التأكيد أكثر من (قرب) وهي إشارة إلى أنّ هذا الحساب قد أصبح قريباً جدّاً.
والتعبير بـ(الناس) وإن كان يشمل عموم الناس ظاهراً، وهو يدلّ على أنّ الجميع في غفلة، إلاّ أنّ ممّا لا شكّ فيه أنّ الذين لهم قلوب واعية يقظة على الدوام، ويفكّرون بالحساب ويعملون له فهم مستثنون من هذا العموم.
والجميل في الأمر أنّه يقول: إقترب الحساب للناس، لا أنّ الناس إقتربوا للحساب، فكأنّ الحساب يسرع لإستقبال الناس.
ثمّ إنّ الفرق بين "الغفلة" و "الإعراض" يمكن أن يكون من جهة أنّ هؤلاء غافلون عن إقتراب الحساب، وهذه الغفلة هي تسبّب الإعراض عن آيات الله سبحانه، فـ"الغفلة عن الحساب" علّة في الحقيقة، و "الإعراض عن الحقّ" معلول لتلك العلّة.
أو أنّ المراد هو الإعراض عن نفس الحساب، وعن الإستعداد للإجابة في تلك المحكمة الكبرى، أي إنّهم لمّا كانوا غافلين، فإنّهم لا يهيّؤون أنفسهم لذلك ويعرضون عنه.
وهنا يأتي سؤال، وهو: ما معنى إقتراب الحساب والقيامة؟
لقد قال البعض: إنّ المراد منه هو أنّ ما بقي من الدنيا قليل في مقابل ما مضى منها، ولهذا فإنّ القيامة ستكون قريبة - قرباً نسبيّاً - خاصة وأنّه قد روي عن الرّسول الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم) أنّه قال: "بعثت أنا والساعة كهاتين"(1) وأشار إلى السبابة والوسطى اللتين تقع إحداهما إلى جنب الاُخرى.
وقال البعض الآخر: إنّ هذا التعبير لكون القيامة موجودة، كما نرى ذلك في المثل السائر كلّ ما هو آت قريب.
ولا منافاة بين هذين التّفسيرين ويمكن أن تكون الآية إشارة إلى كلا الأمرين.
وإحتمل بعض المفسّرين - كالقرطبي - أن يكون الحساب هنا إشارة إلى "القيامة الصغرى"، أي الموت، لأنّ جزءاً من المحاسبة وجزاء الأعمال يصل إلى الإنسان حين الموت(2).
إلاّ أنّ ظاهر الآية ناظر إلى القيامة الكبرى.
﴿اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ﴾ وصف بالقرب لأن كل آت قريب ولأن ما بقي من الدنيا أقل مما ذهب ﴿وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ﴾ عنه ﴿مَّعْرِضُونَ﴾ عن التأهب له.