لا يوجد اتصال بالانترنت !
ستتم اعادة المحاولة بعد 10 ثواني ...
جاري التحميل ...
ثمّ تقول بلهجة قاطعة من أجل إبطال أوهام الجاهلين الذين يظنّون عدم هدفيّة الدنيا، بل هي للهو واللعب فقط: إنّ هذا العالم مجموعة من الحقّ والواقع، ولم يقم أساسه على الباطل (بل نقذف بالحقّ على الباطل فيدمغه فإذا هو زاهق). وتقول في النهاية: (ولكم الويل ممّا تصفون) وتتحدّثون عن عدم هدفية الخلق. أي إنّنا نجعل الأدلّة العقليّة والإستدلالات الواضحة والمعجزات البيّنة إلى جانب ظنون وأوهام اللاهدفيين، لتتبخّر وتتلاشى هذه الأوهام في نظر العلماء وأصحاب الفكر والرأي. إنّ أدلّة معرفة الله واضحة، وأدلّة وجود المعاد بيّنة، وبراهين أحقّية الأنبياء جليّة، والحقّ يمكن تمييزه عن الباطل تماماً إذا لم يكن الشخص من المعاندين. وممّا يستحقّ الإنتباه أنّ جملة "نقذف" من مادّة (قذف) بمعنى الإلقاء، وخاصّةً الإلقاء من طريق بعيد، ولمّا كان للقذف من بعيد سرعة وقوّة أكثر، فإنّ هذا التعبير يبيّن قدرة إنتصار الحقّ على الباطل. وكلمة "على" أيضاً مؤيّدة لهذا المعنى. وجملة "يدمغه" على قول الراغب كسر "الجمجمة والدماغ"، وتعتبر أكثر نقطة في بدن الإنسان حساسّية، وهو تعبير بليغ عن غلبة جند الحقّ غلبة واضحة قاطعة. والتعبير ب- (إذا) توحي بأنّا حتّى في الموارد التي لا يُنتظر ولا يُتوقّع إنتصار الحقّ فيها، فإنّنا سنجري هذه السنّة. والتعبير ب- "زاهق" والذي يعني الشيء المضمحل، تأكيد على هذا المقصود. وأمّا أنّ جملتي (نقذف) و (يدمغ) قد جاءتا بصيغة الفعل المضارع، فهو دليل على إستمرار هذه السنّة. بحث الهدف من الخلق: في الوقت الذي لا يعترف المادّيون بهدف للخلق، لأنّهم يعتقدون أنّ الطبيعة الفاقدة للعقل والشعور والهدف هي التي إبتدأت الخلق، ولهذا فإنّهم يؤيّدون اللغوية وعدم الفائدة في مجموعة الوجود، فإنّ الفلاسفة الإلهيين وإتباع الأديان جميعاً يعتقدون بوجود هدف سام للمخلوقات، لأنّ المبدىء للخلق قادر وحكيم وعالم، فمن المستحيل أن يقوم بعمل لا فائدة فيه. وهنا ينقدح هذا السؤال: ما هو الهدف؟ قد نتوهّم أحياناً نتيجة قياس الله سبحانه على ذواتنا وأنفسنا ونتساءل: هل كان الله محتاجاً وينقصه شيء، وكان يريد بخلق الوجود، ومن جملته الإنسان، أن يسدّ ذلك النقص ويرفع تلك الحاجة؟ هل هو محتاج لعبادتنا ودعائنا ومناجاتنا؟ هل كان يريد أن يُعرف فخلق الخلق ليُعرف؟ إلاّ أنّ هذا كما قلنا خطأ كبير ناشىء من المقارنة بين الله وخلقه، في حين أنّ هذه المقارنة والقياس غير الصحيح هو أكبر سدّ ومانع في بحث معرفة صفات الله، ولذلك فإنّ أوّل أصل في هذا البحث هو أن نعلم أنّ الله سبحانه لا يشبهنا في أي شيء. فالإنسان موجود محدود من كلّ النواحي، ولذلك فإنّ كلّ مساعينا هي من أجل رفع نواقصنا وإحتياجاتنا، ندرس لنتعلّم فنمحو نقص جهلنا، ونسعى للعمل والكسب لدفع الفقر ونكسب الثروة، نهيىء الجيوش والقوى لنسدّ النقص في قوانا أمام العدوّ، وحتّى في الاُمور المعنوية أو تهذيب النفس أو التكامل المعنوي والروحي، فإنّ السعي والجدّ في كلّ ذلك من أجل رفع النواقص . . ولكن، هل من المعقول أن يقوم الوجود المطلق غير المتناهي في كلّ الجهات (فعلمه وقدرته وقوّته غير محدودة، ولا يعاني أي نقص في الوجود) بعمل لرفع حاجته؟ يتّضح من هذا التحليل أنّ الخلق ليس عبثاً من جهة، ومن جهة أُخرى فإنّ الهدف من الخلق لا يعود إلى الخالق. وهنا يمكن أن نصل ببساطة إلى نتيجة، وهي: أنّ الهدف، حتماً وبلا شكّ، أمرٌ يرتبط بنا. ومع ملاحظة هذه المقدّمة يمكن التوصّل إلى أنّ هدف الخلقة هو تكاملنا وإرتقاؤنا ولا شيء سواه. وبتعبير آخر فإنّ عالم الوجود بمثابة مدرسة لتكاملنا في مجال العلم. ودار حضانة لتربية وتهذيب نفوسنا. ومتجر لكسب الموارد المعنوية، وأرض زراعية غنيّة صالحة لإنتاج أنواع المحصولات الإنسانية. أجل "الدنيا مزرعة الآخرة .. الدنيا دار صدق لمن صدقها، ودار غنى لمن تزوّد منها، ودار موعظة لمن اتّعظ بها"(2). إنّ هذه القافلة قد تحركت من عالم العدم، وهي تسير دائماً إلى ما لا نهاية له. ويشير القرآن المجيد إشارات قصيرة عميقة المعنى جدّاً في آيات مختلفة إلى وجود هدف معيّن من الخلق من جهة، ومن جهة أُخرى فإنّه يشخّص هذا الهدف ويوضّحه. فيقول في الجانب الأوّل: (أيحسب الإنسان أن يترك سدى).(3) (أفحسبتم أنّما خلقناكم عبثاً وأنّكم إلينا لا ترجعون).(4) (وما خلقنا السّماء والأرض وما بينهما باطلا ذلك ظنّ الذين كفروا).(5) وفي الجانب الآخر، فإنّه جعل هدف الخلق في بعض الآيات عبودية الله وعبادته: (وما خلقت الجنّ والإنس إلاّ ليعبدون)(6)، ومن البديهي أنّ العبادة منهج لتربية الإنسان في الأبعاد المختلفة .. العبادة بمعناها الشمولي التي هي التسليم لأمر الله ستهب روح الإنسان تكاملا في الأبعاد المختلفة، وقد بيّنا تفصيله في ذيل الآيات المرتبطة بالعبادات المختلفة. ويقول: أحياناً إنّ الهدف من الخلقة هو إيقاظكم وتوعيتكم وتقوية إيمانكم وإعتقادكم: (الله الذي خلق سبع سماوات ومن الأرض مثلهنّ يتنزّل الأمر بينهن لتعلموا أنّ الله على كلّ شيء قدير)(7). ويقول تارةً: إنّ الهدف من الخلق هو إختبار حسن عملكم: (الذي خلق الموت والحياة ليبلوكم أيّكم أحسن عملا). (8) إنّ الآيات الثلاث آنفة الذكر والتي يشير كلّ منها إلى بعد من أبعاد وجود الإنسان الثلاث - بعد الوعي والإيمان، وبعد الأخلاق، وبعد العمل - تبيّن هدف الخلق التكاملي الذي يعود على الإنسان نفسه. ويجدر أن نشير إلى هذه "اللطيفة"، وهي أنّه لمّا كانت آيات القرآن غير حاوية لكلمة التكامل، فإنّ بعضاً يتصوّر أنّها من الأفكار المستوردة; إلاّ أنّ الردّ على مثل هذا التصوّر أو الإشكال واضح، لأنّنا لسنا في صدد الألفاظ الخاصّة، فمفهوم التكامل ومصاديقه جليّة في الآيات آنفة الذكر، تُرى ألم يكن العلم مصداقه الواضح .. أم لم يكن الإرتقاء في العبودية وحسن العمل من مصاديقه! فنحن نقرأ في الآية (17) من سورة محمّد قوله تعالى: (والذين اهتدوا زادهم هدى) فهل يدلّ التعبير بالزيادة إلاّ على التكامل؟ وهنا ينقدح سؤال، وهو: إذا كان الهدف هو التكامل، فلماذا لم يخلق الله الإنسان كاملا منذ البداية حتّى لا يكون محتاجاً إلى طيّ مراحل التكامل؟ إنّ أساس هذا الإشكال هو الغفلة عن هذه النقطة، وهي أنّ العنصر الأصلي للتكامل هو التكامل الإختياري، وبتعبير آخر فإنّ التكامل يعني أن يطوي الإنسان الطريق بنفسه وإرادته وتصميمه، فإذا أخذوا بيده وأوصلوه بالقوّة والجبر فليس هذا إفتخاراً ولا تكاملا. فمثلا: لو أنفق الإنسان فلساً واحداً من ماله بإرادته وتصميمه، فقد طوى من طريق الكمال الأخلاقي بتلك النسبة، في حين أنّه لو أُجبر على إنفاق الملايين من ثروته، فإنّه لم يتقدّم خطوة واحدة في ذلك الطريق، ولذلك صرّح القرآن بهذه الحقيقة في الآيات المختلفة، وهي أنّ الله سبحانه لو شاء لأجبر الناس على أن يؤمنوا، إلاّ أنّ هذا الإيمان لا نفع فيه لهؤلاء: (ولو شاء ربّك لآمن من في الأرض كلّهم جميعاً). (9) ﴿بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى﴾ الذي من جملته اللهو ﴿فَيَدْمَغُهُ﴾ فيعلوه واستعير لذلك القذف وهو الرمي بنحو الحجر والدمغ وهو إصابة الدماغ بالشجة تصويرا لإذهاب الباطل الحق للمبالغة ﴿فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ﴾ مضمحل ﴿وَلَكُمُ﴾ أيها الكفرة ﴿الْوَيْلُ﴾ الهلاك ﴿مِمَّا تَصِفُونَ﴾ الله به.