أمّا الآية الأخيرة التي نبحثها فتشير إلى حساب القيامة الدقيق، وجزائها العادل، ليعلم الكافرون والظالمون أنّ العذاب على فرض أنّه لم يعمّهم في هذه الدنيا، فإنّ عذاب الآخرة حتمي، وسيحاسبون على جميع أعمالهم بدقّة، فتقول: (ونضع الموازين القسط ليوم القيامة).
"القسط" يعني أحياناً عدم التبعيض، وأحياناً يأتي بمعنى العدالة بصورة مطلقة، وما يناسب المقام هو المعنى الثّاني.
وممّا يلفت النظر أنّ "القسط" هنا ذكر كصفة للموازين، وهذه الموازين دقيقة ومنظّمة إلى الحدّ الذي تبدو وكأنّها عين العدالة(3).
ولهذا تضيف مباشرةً: (فلا تظلم نفس شيئاً) فلا ينقص من ثواب المحسنين شيء، ولا يضاف إلى عقاب المسيئين شيء.
إلاّ أنّ نفي الظلم والجور هذا لا يعني عدم الدقّة في الحساب، بل (وإن كان مثقال حبّة من خردل أتينا بها وكفى بنا حاسبين).
"الخردل" نبات له حبّة صغيرة جدّاً يضرب المثل بها في الصغر والحقارة.
وجاء نظير هذا التعبير في موضع آخر من القرآن بتعبير (مثقال ذرّة)(4).
وممّا يستحقّ الإنتباه أنّه قد عُبّر في ستّ مواضع من القرآن بـ(مثقال ذرّة)وفي موضعين بـ(مثقال حبّة من خردل).
وفي الحقيقة فإنّ الآية آنفة الذكر مع التعابير الست المختلفة تأكيد على مسألة المحاسبة الدقيقة في يوم القيامة.
إنّ كلمة "موازين"، وبصيغة الجمع، وبعدها ذكر وصف "القسط"، وبعده التأكيد على نفي الظلم (فلا تظلم نفس شيئاً) وبعد ذلك ذكر كلمة "شيئاً" ثمّ التمثيل بحبّة الخردل، وأخيراً جملة (وكفى بنا حاسبين) كلّ هذه أدلّة على أنّ حساب يوم القيامة دقيق جدّاً، وخال من أي نوع من الظلم والجور.
أمّا ما المراد من الموازين؟
بعض المفسّرين ظنّوا أنّ هناك موازين كموازين هذه الدنيا تُنصب، ثمّ فرضوا بعد ذلك أنّ لأعمال الإنسان هناك وزناً وثقلا ليمكن وزنها بتلك الموازين.
إلاّ أنّ الصحيح هو أنّ الميزان هنا يعني وسيلة قياس الوزن، ومن المعلوم أنّ لكلّ شيء مقياس وزن متناسب معه، كميزان الحرارة، وميزان الهواء، والموازين الاُخرى الذي يتناسب كلّ منها مع الموضوع الذي يريدون قياسه بها.
ونقرأ في الرّوايات الإسلامية أنّ موازين الحساب في القيامة هم الأنبياء والأئمّة والصالحون الذين لا توجد نقطة سوداء في صحيفة أعمالهم(5).
فنقرأ: "السلام على ميزان الأعمال"! وتجد التوضيح والتفصيل بصورة أوسع حول هذا الموضوع ذيل الآية (الثامنة) من سورة الأعراف.
إنّ ذكر الموازين بصيغة الجمع لعلّه إشارة إلى هذا المعنى أيضاً، لأنّ رجال الحقّ كلّ منهم ميزان لأعمال البشر، فمضافاً إلى أنّ جميعهم ممتازون، فإنّ لكلّ منهم إمتيازاً خاصّاً بحيث يعتبر في تلك المرتبة مقياساً ومثلا.
وبتعبير آخر: فإنّ كلّ من يشبه هؤلاء إلى حدّ ما، وتنسجم صفاته وأعماله وصفات وأعمال العظماء، فإنّ وزنه سيثقل بذلك المقدار، وكلّما إبتعدت وإختلفت فسيخفّ وزنه.
﴿وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ﴾ العدل وصف بالمصدر مبالغة أو ذوات العدل ﴿لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ﴾ لأهله أو فيه ﴿فَلَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا﴾ من حقها أو من الظلم ﴿وَإِن كَانَ﴾ العمل ﴿مِثْقَالَ﴾ زنة ﴿حَبَّةٍ مِّنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا﴾ أحضرناها وأنث ضمير مثقال لإضافته إلى الجنة ﴿وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ﴾ عالمين أو محصين.