التّفسير
هذه الآية تكمل البحث في الآية السابقة وتشتمل على احكام اُخرى:
1- عند التعامل إذا لم يكن هناك من يكتب لكم عقودكم، كأن يقع ذلك في سفر، عندئذ على المدين أن يضع شيئاً عند الدائن باسم الرهن لكي يطمئّن الدائن (وإن كنتم على سفر ولم تجدوا كاتباً فرهان مقبوضة).
قد يبدو من ظاهر الآية لأول وهلة أنّ تشريع "قانون الرهن" يختصّ بالسفر، ولكن بالنظر إلى الجملة التالية وهي (ولم تجدوا كاتباً) يتبيّن أنّ القصد هو بيان نموذج لحاله لا يمكن الوصول فيها إلى كاتب، وعليه فللطرفين أن يكتفيا بالرهن حتّى في موطنهما.
وكذلك وردت الأحاديث عن أهل البيت (عليهم السلام).
وفي المصادر الشيعية والسنّيّة أنّ رسول الله (ص) رهن درعه في المدينة عند شخص غير مسلم واقترض منه مبلغاً من المال(1).
2- يجب أن يبقى الرهن عند الدائن حتّى يطمئن (فرهان مقبوضة).
جاء في تفسير العيّاشي أنّ الإمام الصادق (عليه السلام) قال: "لا رهن إلاَّ مقبوضة"(2).
3- جميع هذه الأحكام- من كتابة العقد، واستشهاد الشهود، وأخذ الرهن- تكون في حالة عدم وجود ثقة تامّة بين الجانبين، وإلاَّ فلا حاجة إلى كتابة عقد، وعلى المدين أن يحترم ثقة الدائن به، فيسدّد دَينه في الوقت المعيّن، وأن لا ينسى تقوى الله (فإن أمن بعضكم بعضاً فليؤدّ الذي اؤتمن أمانته وليتّق الله ربّه).
4- على الذين لهم علم بما للآخرين من حقوق في المعاملات أو في غيرها، إذا دعوا للإدلاء بشهادتهم أن لا يكتموها، لأنّ كتمان الشهادة من الذنوب الكبيرة (ولا تكتموا الشهادة ومن يكتمها فإنّه آثم قلبُه).
طبيعيّ أنّ الشهادة تجب علينا إذا لم يستطع الآخرون إثبات الحقّ بشهادتهم، أمّا إذا ثبت الحقّ فيسقط وجوب الإدلاء بالشهادة عن الآخرين، أي أنّ أداء الشهادة واجب كفائي.
وبما أنّ كتمان الشهادة والإمتناع عن الإدلاء بها يكون من أعمال القلب، فقد نسب هذا الإثم إلى القلب(3)، فقال: (فإنه آثم قلبه) ومرّة اُخرى يؤكّد في ختام الآية ضرورة ملاحظة الأمانة وحقوق الآخرين: (والله بما تعملون عليم).
﴿وَإِن كُنتُمْ عَلَى سَفَرٍ﴾ مسافرين ﴿وَلَمْ تَجِدُواْ كَاتِبًا فَرِهَانٌ مَّقْبُوضَةٌ﴾ تقوم مقام الوثيقة أو فالوثيقة رهان وتقيد الارتهان بالسفر وعدم وجدان الكاتب خرج مخرج الغالب وظاهره اعتبار القبض كما عليه أكثر الأصحاب ومالك وقرىء رهن كسقف وكلاهما جمع رهن بمعنى المرهون ﴿فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُم بَعْضًا﴾ وثق الدائن بالمديون ولم يرتهن منه ﴿فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ﴾ أي دينه الذي ائتمنه عليه وسمي أمانة لذلك ﴿وَلْيَتَّقِ اللّهَ رَبَّهُ وَلاَ تَكْتُمُواْ الشَّهَادَةَ﴾ أيها الشهود ﴿وَمَن يَكْتُمْهَا﴾ مع تمكنه من أدائها ﴿فَإِنَّهُ آثِمٌ﴾ كافر ﴿قَلْبُهُ﴾ أسند الإثم إلى القلب لأن الكتمان فعله، أو لأنه رئيس الأعضاء ﴿وَاللّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ﴾ ترهيب.