لا يوجد اتصال بالانترنت !
ستتم اعادة المحاولة بعد 10 ثواني ...
جاري التحميل ...
التّفسير عندما تصير النّار جنّة: مع أنّ عبدة الأوثان اُسقط ما في أيديهم نتيجة إستدلالات إبراهيم العمليّة والمنطقيّة، وإعترفوا في أنفسهم بهذه الهزيمة، إلاّ أنّ عنادهم وتعصّبهم الشديد منعهم من قبول الحقّ، ولذلك فلا عجب من أن يتّخذوا قراراً صارماً وخطيراً في شأن إبراهيم، وهو قتل إبراهيم بأبشع صورة، أي حرقه وجعله رماداً! هناك علاقة عكسية بين القوّة والمنطق عادةً، فكلّ من إشتدّت قوّته ضعف منطقه، إلاّ رجال الحقّ فإنّهم كلّما زادت قوتهم يصبحون أكثر تواضعاً ومنطقاً. وعندما لا يحقّق المتعصّبون شيئاً عن طريق المنطق، فسوف يتوسّلون بالقوّة فوراً، وقد طبّقت هذه الخطّة في حقّ إبراهيم تماماً كما يقول القرآن الكريم: (قالوا حرّقوه وانصروا آلهتكم إن كنتم فاعلين). إنّ المتسلّطين المتعنّتين يستغلّون نقاط الضعف النفسيّة لدى الغوغاء من الناس لتحريكهم - عادةً - لمعرفتهم بالنفسيات ومهارتهم في عملهم! وكذلك فعلوا في هذه الحادثة، وأطلقوا شعارات تثير حفيظتهم، فقالوا: إنّ آلهتكم ومقدّساتكم مهدّدة بالخطر، وقد سُحقت سنّة آبائكم وأجدادكم، فأين غيرتكم وحميّتكم؟! لماذا أنتم ضعفاء أذلاّء؟ لماذا لا تنصرون آلهتكم؟ احرقوا إبراهيم وانصروا آلهتكم - إذا كنتم لا تقدرون على أي عمل - ما دام فيكم عرق ينبض، ولكم قوّة وقدرة. اُنظروا إلى كلّ الناس يدافعون عن مقدّساتهم، فما بالكم وقد أحدق الخطر بكلّ مقدّساتكم؟! والخلاصة، فقد قالوا الكثير من أمثال هذه لخزعبلات وأثاروا الناس ضدّ إبراهيم بحيث أنّهم لم يكتفوا بعدّة حزم من الحطب تكفي لإحراق عدّة أشخاص، بل أتوا بآلاف الحزم وألقوها حتّى صارت جبلا من الحطب ثمّ أشعلوه فاتّقدت منه نار مهولة كأنّها البحر المتلاطم والدخان يتصاعد إلى عنان السّماء لينتقموا من إبراهيم أوّلا، وليحفظوا مهابة أصنامهم المزعومة التي حطّمتها خِطّته وأسقطت اُبّهتها!! لقد كتب المؤرخّون هنا مطالب كثيرة، لا يبدو أي منها بعيداً، ومن جملتها قولهم: إنّ الناس سعوا أربعين يوماً لجمع الحطب، فجمعوا منه الكثير من كلّ مكان، وقد وصل الأمر إلى أنّ النساء اللاتي كان عملهنّ الحياكة في البيوت، خرجن وأضفن تلاًّ من الحطب إلى ذلك الحطب، ووصّى المرضى المشرفون على الموت بمبلغ من أموالهم لشراء الحطب، وكان المحتاجون ينذرون بأنّهم يضيفون مقداراً من الحطب إذا قضيت حوائجهم، ولذلك عندما أشعلوا النّار في الحطب من كلّ جانب إشتعلت نار عظيمة بحيث لا تستطيع الطيور أن تمرّ فوقها. من البديهي أنّ ناراً بهذه العظمة لا يمكن الإقتراب منها، فكيف يريدون أن يلقوا إبراهيم فيها، ومن هنا اضطروا إلى الإستعانة بالمنجنيق، فوضعوا إبراهيم عليه وألقوه في تلك النّار المترامية الأطراف بحركة سريعة(1). ونقرأ في الرّوايات المنقولة عن طرق الشّيعة والسنّة أنّهم عندما وضعوا إبراهيم على المنجنيق، وأرادوا أن يلقوه في النّار، ضجّت السّماء والأرض والملائكة، وسألت الله سبحانه أن يحفظ هذا الموحّد البطل وزعيم الرجال الأحرار. ونقلوا أيضاً أنّ جبرئيل جاء للقاء إبراهيم، وقال له: ألك حاجة؟ فأجابه إبراهيم بعبارة موجزة: "أمّا إليك فلا" إنّي أحتاج إلى من هو غني عن الجميع، ورؤوف بالجميع. وهنا إقترح عليه جبرئيل فقال: فاسأل ربّك، فأجابه: "حسبي مِن سؤالي علمه بحالي"(2). وفي حديث عن الإمام الباقر (ع): إنّ إبراهيم ناجى ربّه في تلك الساعة: "ياأحد ياأحد، ياصمد ياصمد، يامن لم يلد ولم يولد، ولم يكن له كفواً أحد، توكّلت على الله"(3). كما ورد هذا الدعاء بعبارات مختلفة وفي العديد من المصادر الاُخرى. وعلى كلّ حال، فقد اُلقي إبراهيم في النّار وسط زغاريد الناس وسرورهم وصراخهم، وقد أطلقوا أصوات الفرح ظانّين أنّ محطّم الأصنام قد فني إلى الأبد وأصبح تراباً ورماداً. لكنّ الله الذي بيده كلّ شيء حتّى النّار لا تحرق إلاّ بإذنه، شاء أن يبقى هذا العبد المؤمن المخلص سالماً من لهب تلك النّار الموقدة ليضيف وثيقة فخر جديدة إلى سجل إفتخاراته، وكما يقول القرآن الكريم: (قلنا يانار كوني برداً وسلاماً على إبراهيم). لا شكّ أنّ أمر الله هنا كان أمراً تكوينيّاً، كالأمر الذي يصدره في عالم الوجود إلى الشمس والقمر، والأرض والسّماء، والماء والنّار، والنباتات والطيور. والمعروف أنّ النّار قد بردت برداً شديداً إصطّكت أسنان إبراهيم منه، وحسب قول بعض المفسّرين: إنّ الله سبحانه لو لم يقل: سلاماً، لمات إبراهيم من شدّة البرد. وكذلك نقرأ في رواية مشهورة أنّ نار النمرود قد تحوّلت إلى حديقة غناء(4). حتّى قال بعض المفسّرين إنّ تلك اللحظات التي كان فيها إبراهيم في النّار، كانت أهدأ وأفضل وأجمل أيّام عمره(5). على كلّ حال، فهناك إختلاف كبير بين المفسّرين في كيفية عدم إحراق النّار لإبراهيم، إلاّ أنّ مجمل الكلام أنّه في فلسفة التوحيد لا يصدر أي مسبّب عن أي سبب إلاّ بأمر الله، فيقول يوماً للسكّين التي في يد إبراهيم: لا تقطعي، ويقول يوماً آخر للنار: لا تحرقي، ويوماً آخر يأمر الماء الذي هو أساس الحياة أن يغرق فرعون والفراعنة! ﴿قَالُوا﴾ حين ألزمهم الحجة ﴿حَرِّقُوهُ وَانصُرُوا آلِهَتَكُمْ﴾ بحرقه ﴿إِن كُنتُمْ فَاعِلِينَ﴾ ناصريها.