وعلى كلّ حال، فإنّ الآية التالية تؤيّد حكم سليمان في هذه القصّة على هذه الشاكلة: (ففّهمناها سليمان) ولكن هذا لا يعني أنّ حكم داود كان إشتباهاً وخطأً، لأنّها تضيف مباشرةً (وكلاًّ آتينا حكماً وعلماً).
ثمّ تشير إلى إحدى المواهب والفضائل التي كان الله سبحانه قد وهبها لداود(ع)، فتقول: (وسخّرنا مع داود الجبال يسبّحن والطير) فإنّ ذلك ليس شيئاً مهمّاً أمام قدرتنا (وكنّا فاعلين).
بحث
هناك بحث بين المفسّرين في أنّه كيف كان تجاوب الجبال والطير مع داود؟ وما المراد من قوله تعالى: (وسخّرنا مع داود الجبال يسبّحن)؟!
1 - فاحتُمل أحياناً أنّ هذا كان صوت داود الرخيم المؤثّر الجذّاب، والذي كان ينعكس في الجبال، وكان يجذب الطيور إليه.
2 - وقالوا حيناً آخر: إنّ هذا التسبيح كان تسبيحاً مقترناً بالإدراك والشعور الموجود في باطن ذرّات العالم، لأنّ كلّ موجودات العالم لها نوع من العقل والشعور حسب هذه النظرية، وعندما كانت تسمع صوت داود في وقت المناجاة والتسبيح كانت تردّد معه، وتمتزج بهمهمة تسبيح منها.
3 - وقال البعض: إنّ المراد هو التسبيح التكويني الذي يوجد في موجودات العالم بلسان حالها، لأنّ لكلّ موجود نظاماً دقيقاً جدّاً.
وهذا النظام الدقيق يحكي عن طهارة ونزاهة الله، وعن أنّ له صفات كمال، وبناءً على هذا فإنّ نظام عالم الوجود العجيب في كلّ زاوية منه تسبيح وحمد، ف- "التسبيح" هو التنزيه عن النقائص، و"الحمد" هو الثناء على صفات الكمال(6).
فإن قيل: إنّ التسبيح التكويني لا يختّص بالجبال والطيور، ولا بداود، بل أنّ نغمة هذا التسبيح تنبعث من كلّ الأرجاء والموجودات على الدوام.
قالوا في الجواب: صحيح إنّ هذا التسبيح عام، ولكن لا يدركه الجميع، فقد كانت روح داود العظيمة في هذه الحالة منسجمة مع باطن وداخل عالم الوجود، وكان يحسن جيداً أنّ الجبال والطير يسبّحن معه.
وليس لدينا دليل قاطع على أي من هذه التفاسير، وما نفهمه من ظاهر الآية هو أنّ الجبال والطير كانت تردّد وتتجاوب مع داود، وكانت تسبّح الله، وفي الوقت نفسه لا تضادّ بين هذه التفاسير الثلاثة، فالجمع بينها ممكن.
﴿فَفَهَّمْنَاهَا﴾ أي الحكومة ﴿سُلَيْمَانَ وَكُلًّا﴾ منهما ﴿آتَيْنَا حُكْمًا﴾ حكمة أو نبوة ﴿وَعِلْمًا﴾ بأمور الدين ﴿وَسَخَّرْنَا مَعَ دَاوُودَ الْجِبَالَ يُسَبِّحْنَ﴾ ينزهن الله بإنطاقه إياها أو بلسان الحال ﴿وَالطَّيْرَ وَكُنَّا فَاعِلِينَ﴾ لمثل ذلك وإن استغربتموه.