التّفسير
الرياح تحت إمرة سليمان:
تشير هاتان الآيتان إلى جانب من المواهب التي منحها الله لنبي آخر من الأنبياء - أي سليمان (ع) فتقول الآية الأُولى منهما: (ولسليمان الريح عاصفةً تجري بأمره إلى الأرض التي باركنا فيها) وهذا الأمر ليس عجيباً، لأنّنا عارفون به (وكنّا بكلّ شيء عالمين) فنحن مطّلعون على أسرار عالم الوجود، والقوانين والأنظمة الحاكمة عليه، ونعلم كيفية السيطرة عليها، ونعلم كذلك نتيجة وعاقبة هذا العمل، وعلى كلّ حال فإنّ كلّ شيء خاضع ومسلّم أمام علمنا وقدرتنا.
إنّ جملة (ولسليمان ...) معطوفة على جملة (وسخّرنا مع داود الجبال) أي إنّ قدرتنا عظيمة نقدر معها على أن نسخّر الجبال لعبد من عبادنا أحياناً لتسبّح معه، وأحياناً نجعل الريح تحت إمرة أحد عبادنا ليرسلها حيث شاء.
إنّ لفظة (العاصفة) تعني الرياح القويّة أو الهائجة، في حين يستفاد من بعض آيات القرآن الاُخرى أنّ الرياح الهادئة أيضاً كانت تحت إمرة سليمان، كما تصوّر ذلك الآية (36) من سورة ص: (فسخّرنا له الريح تجري بأمره رخاءً حيث أصاب).
إنّ التصريح بالعاصفة هنا يمكن أن تكون من باب بيان الفرد الأهمّ، أي ليست الرياح الهادئة لوحدها تحت إمرته، بل حتّى العواصف الشديدة كانت رهن إشارته أيضاً، لأنّ الثّانية أعجب.
ثمّ إنّ هذه الرياح القويّة التي في مسير الأرض المباركة (الشام) حيث كان مقرّ سليمان(ع)، لم تكن الوحيدة، بل إنّها كانت تتحرّك حيث أراد، وإلى جميع الأمكنة حسب الآية (36) من سورة ص، وعلى هذا فإنّ التصريح باسم الأرض المباركة لأنّها كانت مركزاً لحكومة سليمان.
أمّا كيف كانت الريح تحت إمرته وتصرّفه؟
وبأيّة سرعة كانت تتحرّك؟
وعلى أي شيء كان يجلس سليمان وأصحابه ويتحرّكون؟
وأي عامل كان يحفظ هؤلاء عند حركتهم من السقوط أو ضغط الهواء أو المصاعب الاُخرى؟
والخلاصة: أيّة قوّة خفيّة كانت تعطيه القدرة على إمكانية التحرّك بمثل هذه الحركة السريعة في ذلك العصر والزمان(1)؟
إنّ هذه مسائل لم تتّضح لنا جزئياتها، والذي نعلمه هو أنّها كانت موهبة إلهيّة خارقة وضعت تحت تصرّف هذا النّبي العظيم، وما أكثر المسائل التي نعلم بوجودها الإجمالي، ونجهل تفصيلها؟! إنّ معلوماتنا في مقابل ما نجهله كالقطرة من البحر المحيط، أو كالذرّة مقابل الجبل العظيم.
والخلاصة: فإنّ من وجهة نظر وإعتقاد إنسان موحّد يعبد الله، لا يوجد شيء صعب ومستحيل أمام قدرة الله سبحانه، فهو قادر على كلّ شيء، وعالم بكلّ شيء.
لقد كتبت حول هذه الفترة من حياة سليمان - كالفترات الاُخرى من حياته العجيبة - أساطير كاذبة أو مشكوكة كثيرة لا نقبلها مطلقاً، فنحن نكتفي بهذا المقدار الذي بيّنه القرآن هنا.
ويلزم ذكر هذه اللطيفة أيضاً، وهي أنّ بعض الكتّاب المتأخرين يعتقدون بأنّ القرآن ليس فيه شيء صريح عن حركة سليمان والبساط، بل أورد الكلام عن تسخير الرياح لسليمان فقط، فربّما كان ذلك إشارة إلى إستغلال سليمان لقوّة الهواء في المسائل المرتبطة بالزراعة، وتلقيح النباتات، وتنقية الحنطة والشعير، وحركة السفن، خاصّةً وأنّ أرض سليمان (الشام) كانت أرضاً زراعية من جهة، ومن جهة أُخرى فإنّ جانباً مهمّاً منها كان على سواحل البحر الأبيض المتوسط، وكان يُنتفع منها في حركة الملاحة(2).
إلاّ أنّ هذا التّفسير لا يتناسب كثيراً وآيات سورة سبأ وسورة ص وبعض الرّوايات الواردة في هذا الباب.
﴿وَلِسُلَيْمَانَ﴾ وسخرنا له ﴿الرِّيحَ عَاصِفَةً﴾ شديدة الهبوب في عملها طيبة في نفسها كما قال رخاء أو يختلف حالها حسب إرادته ﴿تَجْرِي بِأَمْرِهِ إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا﴾ وهي الشام ﴿وَكُنَّا بِكُلِّ شَيْءٍ عَالِمِينَ﴾ فلا نفعل إلا ما تقتضيه الحكمة.