ثمّ بيّنت الآية التالية في عدّة جمل إنعكاس هذا الذعر الشديد، فقالت: (يوم ترونها تذهل كلّ مرضعة عمّا أرضعت) من شدّة الوحشة والرعب.
(وتضع كلّ ذات حمل حملها).
وثالث إنعكاس لهذا الذعر الشديد: (ترى الناس سكارى وما هم بسكارى)وعلّة ذلك هو شدّة العذاب في ذلك اليوم (ولكن عذاب الله شديد) هذا العذاب الذي أرعب الناس وأفقدهم صوابهم.
مسائل مهمّة
1 - تحدث هذه الظواهر المذكورة آنفاً بشكل يسير في الزلازل الدنيويّة والأحداث المرعبة، حيث تنسى الاُمّهات أطفالهنّ، وتسقط الحوامل حملهنّ، وترى آخرين كالسكارى قد فقدوا صوابهم، إلاّ أنّ هذا لا يتّخذ طابعاً عاماً.
أمّا زلزال البعث فإنّه يصيب الناس جميعاً دون إستثناء.
2 - قد تكون هذه الآيات إشارة إلى خاتمة العالم التي تعتبر مقدّمة للبعث، وفي هذه الحالة ستأخذ عبارة "كلّ ذات حمل ... وتذهل كلّ مرضعة" مفهومها الحقيقي، إلاّ أنّه يحتمل أنّها تشير إلى زلزال يوم البعث، بدلالة قوله سبحانه: (لكن عذاب الله شديد) والعبارات السابقة تكون كأمثلة.
أي إنّ الموقف مرعب لدرجة أنّه لو فرض وجود ذات حمل لوضعت حملها، وتغفل الاُمّهات عن أطفالهنّ - تماماً - إن شهدن هذا الموقف.
3 - نعلم أنّ كلمة "المرضع" تطلق في اللغة العربية على المرأة التي ترضع ولدها(1)، إلاّ أنّ مجموعة من المفسّرين وبعض اللغويين يقولون: إنّ هذه الكلمة تستخدم بصيغة مؤنثة "مرضعة" لتشير إلى لحظة الإرضاع، أي يطلق على المرأة التي يمكنها إرضاع طفلها كلمة المرضع، وكلمة المرضعة خاصة بالمرأة التي هي في حالة إرضاع طفلها(2).
ولهذا التعبير في الآية أهميّة خاصّة، فشدّة زلزال البعث، ورعبه بدرجة كبيرة، يدفعان المرضعة إلى سحب ثديها من فم رضيعها ونسيانه دون وعي منها.
4 - إنّ عبارة (ترى الناس سكارى) إشارة إلى أنّ النّبي (صلى الله عليه وآله وسلم) هو المخاطب فيها فيقول له: سترى الناس هكذا، أمّا أنت فلست مثلهم، ويحتمل أن يكون الخطاب للمؤمنين الراسخين في الإيمان الذين ساروا على خطى النّبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، بأنّهم في أمان من هذا الخوف الشديد.
5 - نقل كثير من المفسّرين ورواة الحديث في خاتمة هذه الآيات حديثاً عن الرّسول (صلى الله عليه وآله وسلم) وهو أنّ الآيتان من بداية السورة نزلتا ليلا في غزاة بني المصطلق(3)- وهم حي من خزاعة - والناس يسيرون، فنادى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فحثّوا المطي حتّى كانوا حوله (صلى الله عليه وآله وسلم) فقرأها عليهم.
فلم ير أكثر باكياً من تلك الليلة، فلمّا أصبحوا لم يحطّوا السرج عن الدواب ولم يضربوا الخيام، والناس بين باك حزين أو جالس يتفكّر، فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): "أتدرون أي يوم ذاك؟" قالوا: الله ورسوله أعلم.
قال: "ذاك يوم يدخل الناس من كلّ ألف تسعمائة وتسعة وتسعين إلى النّار، وواحد إلى الجنّة"! فكبر ذلك على المسلمين وبكوا بشدّة! وقالوا: فمن ينجو يارسول الله؟ فأجابهم بأنّ المذنبين الذين يشكّلون الأكثرية هم غيركم.
ثمّ قال: "إنّي لأرجو أن تكونوا ربع أهل الجنّة" فكبّروا، ثمّ قال: "إنّي لأرجو أن تكونوا ثلث أهل الجنّة" فكبّروا، ثمّ قال: "إنّي لأرجو أن تكونوا ثلثي أهل الجنّة، وإنّ أهل الجنّة مائة وعشرون صفّاً، ثمانون منها اُمّتي"(4).
﴿يَوْمَ تَرَوْنَهَا﴾ أي الزلزلة ﴿تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ﴾ أي هولها بحيث لو ألقمت المرضعة الرضيع ثديها أنزعته من فمه ونسيته لدهشتها ﴿وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا﴾ جنينها ﴿وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى﴾ من شدة الفزع وأفرد بعد جمعه لأن الزلزلة يراها الكل والسكر إنما يراه كل واحد من غيره ﴿وَمَا هُم بِسُكَارَى﴾ من الشراب ﴿وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ﴾ فأفزعهم بحيث أزال عقولهم.