التّفسير
الواقف على حافّة وادي الكفر
تحدّثت الآيات السابقة عن مجموعتين: الأتباع الضالّين، والقادة المضلّين.
أمّا هذه الآيات، فتتحدّث عن مجموعة ثالثة هم ضعاف الإيمان.
قال القرآن المجيد عن هذه المجموعة: (ومن الناس من يعبد الله على حرف) أي إن بعض الناس يعبد الله بلقلقة لسان، وإنّ إيمانه ضعيف جدّاً.
ولم يدخل الإيمان إلى قلبه.
وعبارة "على حرف" ربّما تكون إشارة إلى أنّ إيمانهم باللسان فقط، وأنّ قلوبهم لم تر بصيصاً من نوره إلاّ قليلا، وقد تكون إشارة إلى أنّ هذه المجموعة تحيا على هامش الإيمان والإسلام وليس في عمقه، فأحد معاني "الحرف" هو حافّة الجبل والأشياء الاُخرى.
والذي يقف على الحافّة لا يمكنه أن يستقرّ.
فهو قلق في موقفه هذا، يمكن أن يقع بهزّة خفيفة، وهكذا ضعاف الإيمان الذين يفقدون إيمانهم بأدنى سبب.
ثمّ تناول القرآن الكريم عدم ثبات الإيمان لدى هؤلاء الأشخاص (فإن أصابه خير اطمأنّ به وإن أصابته فتنة إنقلب على وجهه)(1) إنّهم يطمئنون إذا ضحكت لهم الدنيا وغمرتهم بخيراتها! ويعتبرون ذلك دليلا على أحقّية الإسلام.
إلاّ أنّهم يتغيّرون ويتّجهون إلى الكفر إن امتحنوا بالمشاكل والقلق والفقر، فالدين والإيمان لديهم وسيلة للحصول على ما يبتغون في هذه الدنيا، فإن تمّ ما يبغونه كان الدين حقّاً، وإلاّ فلا.
وذكر "ابن عبّاس" ومفسّرون قدماء سبب نزول هذه الآية: "أنّها نزلت في أعراب كانوا يقدمون على النّبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بالمدينة مهاجرين من باديتهم، فكان أحدهم إذا صحّ بها جسمه ونتجت فرسه مهراً حسناً.
وولدت امرأته غلاماً وكثر ماله وماشيته، رضي به واطمأنّ إليه، وإن أصابه وجع وولدت امرأته اُنثى أو أجهضت فرسه أو ذهب ماله أو تأخّرت عنه الصدقة، أتاه الشيطان وقال له: ما جاءتك هذه الشرور إلاّ بسبب هذا الدين.
فينقلب عن دينه"(2).
وممّا يلفت النظر أنّ القرآن الكريم يعبّر عن إقبال الدنيا على هؤلاء الأشخاص بالخير.
وعن إدبارها بالفتنة (وسيلة الإمتحان) ولم يطلق عليها كلمة الشرّ، إشارة إلى أنّ هذه الأحداث غير المرتقبة ليست شرّاً ولا سوءاً وإنّما هي وسيلة للإمتحان.
ويضيف القرآن المجيد في الختام - (خسر الدنيا والآخرة) و (ذلك هو الخسران المبين) مؤكّداً أنّ أفدح الضرر وأفظع الخسران، هو أن يفقد الإنسان دينه ودنياه.
وهؤلاء الأشخاص الذين يقيسون الحقّ بإقبال الدنيا عليهم ينظرون إلى الدين وفق مصالحهم الخاصّة، وهذه الفئة موجودة بكثرة في كلّ مجتمع، وإيمانها مزيج بالشرك وعبادة الأصنام، إلاّ أنّ أصنامهم هي وأزواجهم وأبناؤهم وأموالهم ومواشيهم، ومثل هذا الإيمان أضعف من بيت العنكبوت!
وهناك مفسّرون يرون أنّ هذه الآية تشير إلى المنافقين، لكن إذا إعتبرنا أنّ المنافق هو من لا يملك ذرّةً من الإيمان، فإنّ ذلك يخالف ظاهر هذه الآية، فعبارة "يعبد الله" و "اطمأنّ به" و "انقلب على وجهه" تبيّن أنّه ذو إيمان ضعيف قبل هذا.
أمّا إذا قُصِد بالمنافق من يملك قليلا من الإيمان، فلا يعارض ما قلناه، ويمكن قبوله.
﴿وَمِنَ النَّاسِ مَن يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ﴾ طرف من الدين مضطربا فيه كالقائم على طرف جبل وباقي الآية بيان هذا المجمل ﴿فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ﴾ نعمة ورخاء ﴿اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ﴾ محنة وبلاء ﴿انقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ﴾ عاد إلى كفره ﴿خَسِرَ الدُّنْيَا﴾ بفقد عصمته ﴿وَالْآخِرَةَ﴾ بدخول النار بكفره ﴿ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ﴾ البين.