لا يوجد اتصال بالانترنت !
ستتم اعادة المحاولة بعد 10 ثواني ...
جاري التحميل ...
التّفسير تتابع هذه الآيات البحث السابق عن مناسك الحجّ مشيرةً إلى جانب آخر من هذه المناسك، فتقول أوّلا: (ثمّ ليقضوا تفثهم وليوفوا نذورهم) أي ليطّهروا أجسامهم من الأوساخ والتلوّث، ثمّ ليوفوا ما عليهم من نذور. و (ليطّوفوا بالبيت العتيق) أي يطوفوا بذلك البيت الذي صانه الله عن المصائب والكوارث وحرّره. وكلمة "تفث" تعني - كما قال كبار اللغويين والمفسّرين - القذارة وما يلتصق بالجسم وزوائده كالأظافر والشعر. ويقول البعض: إنّ أصلها يعني القذارة التي تحت الأظافر وأمثالها(1). ورغم إنكار بعض اللغويين لوجود مثل هذا الإشتقاق في اللغة العربية، إلاّ أنّ الراغب الاصفهاني نقل كلام بدويّ قاله بحقّ أحد الأشخاص القذرين: "ما أتفثك وأدرنك" دليلا على عربية هذه الكلمة ووجود إشتقاق لها في اللغة العربية. وقد فسّرت (ليقضوا تفثهم) في الأحاديث الإسلامية بتقليم الأظافر وتطهير البدن ونزع الإحرام. وبتعبير آخر: تشير هذه العبارة إلى برنامج "التقصير" الذي يعدّ من مناسك الحجّ. وجاء في أحاديث إسلامية أُخرى بمعنى حلاقة الرأس التي تعتبر أحد أساليب "التقصير". كما جاء في "كنز العرفان" حديث رواه ابن عبّاس في تفسير هذه الآية: "القصد إنجاز مشاعر الحجّ كلّها"(2) إلاّ أنّه لا سند لدينا لحديث ابن عبّاس هذا. والذي يلفت النظر في حديث عن الإمام الصادق (ع) أنّه فسّر عبارة (ليقضوا تفثهم) بلقاء الإمام، وعندما سأله الراوي عبدالله بن سنان عن توضيح لهذه المسألة قال: "إنّ للقرآن ظاهراً وباطناً"(3). وهذا الحديث ربّما كان إشارة إلى ملاحظة تستحقّ الإهتمام. وهي أنّ حجّاج بيت الله الحرام يتطهّرون عقب مناسك الحجّ ليزيلوا الأوساخ عن أبدانهم، فعليهم أن يطهّروا أرواحهم أيضاً بلقاء الإمام (ع)، خاصّةً وأنّ الخلفاء الجبابرة كانوا يمنعون لقاء المسلمين لإمامهم في الظروف العادية. لهذا تكون أيّام الحجّ خير فرصة للقاء الإمام، وبهذا المعنى نقرأ حديثاً للإمام الباقر (ع) قال فيه: "تمام الحجّ لقاء الإمام"(4). وكلاهما - في الحقيقة - تطهير، أحدهما تطهير لظاهر البدن من القذارة والأوساخ، والآخر تطهير باطني من الجهل والمفاسد الأخلاقية. أمّا "الوفاء بالنذر" فيعني أنّ كثيراً من الناس ينذرون تقديم أضاحي إضافيّة في الحجّ، أو التصدّق بمال، أو القيام بعمل خيري في أيّام الحجّ، ولكنّهم ينسون ويغفلون عن كلّ ذلك عند وصولهم إلى مكّة، لهذا أكّد القرآن عليهم الوفاء بالنذور، وإلاّ يقصّروا في ذلك(5). أمّا لماذا سمّيت الكعبة بالبيت العتيق؟ "العتيق" مشتقّة من "العتق" أي التحرّر من قيود العبودية، وربّما كان ذلك لأنّ الكعبة تحرّرت من قيود ملكية عباد الله، ولم يكن لها مالك إلاّ الله، كما حرّرت من قيد سيطرة الجبابرة كإبرهة. ومن معاني "العتيق" أيضاً الشيء الكريم الثمين، وهذا المعنى يتجسّد في الكعبة بوضوح. ومن المعاني الاُخرى للعتيق "القديم" يقول الراغب الاصفهاني: العتيق المتقدّم في الزمان أو المكان أو الرتبة. وهذا المعنى أيضاً واضح بالنسبة للكعبة، فهي أقدم مكان يوحّد فيه الله. وبحسب ما جاء في القرآن (إنّ أوّل بيت وضع للناس)(6)وعلى كلّ حال فلا مانع من إطلاق العتيق على بيت الله بعد ملاحظة ما تتضمنّه هذه الكلمة من معان، أشار كلّ مفسّر إلى جانب منها. أو ذكرت الأحاديث المختلفة جوانب أُخرى من معانيها. أمّا المراد من "الطواف" الوارد في آخر الآية المذكور أعلاه فهناك بحث بين المفسّرين (هناك طوافان - بعد مراسم عيد الأضحى في منى - على الحجّاج أن يقوموا بهما، الطواف الأوّل يدعى "طواف الزيارة"، والثّاني "طواف النساء"). يرى بعض الفقهاء والمفسّرين أنّ مفهوم الطواف عام هنا، لأنّ الآية لم تتضمّن قيوداً أو شرطاً ما، فهي تضمّ طواف الحجّ وطواف النساء، حتّى أنّها تشمل طواف العمرة أيضاً(7). في وقت يرى مفسّرون آخرون أنّ الآية تقصد طواف الزيارة فقط، الذي يجب على الحاج بعد إحلاله من إحرام الحجّ(8). إلاّ أنّ الأحاديث الواردة عن أهل البيت (عليهم السلام) تفيد أنّ القصد هنا طواف النساء، ففي حديث عن الإمام الصادق (ع) في تفسير (وليوفوا نذورهم وليطوفوا بالبيت العتيق) قال: "طواف النساء"(9). كما روي عن الإمام علي بن موسى الرضا (ع) حديث بهذا المعنى(10). وهذا الطواف يسمّى عند أهل السنّة طواف الوداع. ومع ملاحظة هذه الأحاديث يبدو التّفسير الأخير هو الأقوى، خاصّةً إذا عبّر بهذا المعنى أيضاً في تفسير (ثمّ ليقضوا تفثهم). حيث يجب إضافة إلى تطهير البدن من القذارة والشعر الزائد، إستعمال العطر أيضاً. ومن المعلوم أنّه لا يجوز إستعمال العطور في الحجّ إلاّ بعد إتمام الطواف والسعي، أو عندما لا يكون طواف بذمّة الحاج إلاّ طواف النساء. ﴿ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ﴾ ليزيلوا شعثهم بقص الشارب والظفر وحلق الشعر والغسل إذا أحلوا ﴿وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ﴾ ما نذروا من البر في حجتهم ﴿وَلْيَطَّوَّفُوا﴾ طواف الزيارة والنساء أو الوداع أو ما يعمها ﴿بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ﴾ القديم لأنه أول بيت وضع أو الكريم وروي أنه المعتق من الغرق ومن تسلط الجبابرة.