ثمّ توضّح هذه الآيات للمظلومين - الذين أذن لهم بالدفاع عن أنفسهم - بواعث هذا الدفاع، ومنطق الإسلام في هذا القسم من الجهاد فتقول: (الذين اُخرجوا من ديارهم بغير حقّ) وذنبهم الوحيد أنّهم موحّدون: (إلاّ أن يقولوا ربّنا الله).
ومن البديهي أنّ توحيد الله موضع فخر للمرء وليس ذنباً يبيح للمشركين إخراج المسلمين من بيوتهم وإجبارهم على الهجرة من مكّة إلى المدينة، وتعبير الآية جاء لطيفاً - يُجلّي إدانة الخصم، فنحن على سبيل المثال نقول لناكر الجميل: لقد أذنبنا عندما خدمناك، وهذه كناية عن جهل المخاطب الذي يجازي الخير شرّاً(5).
ثمّ تستعرض الآية واحداً من جوانب فلسفة تشريع الجهاد فتقول: (ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لهدّمت صوامع وبيع وصلوات ومساجد يذكر فيها اسم الله كثيراً).
أي إنّ الله إن لم يدافع عن المؤمنين، ويدفع بعض الناس ببعضهم عن طريق الإذن بالجهاد، لهدّمت أديرة وصوامع ومعابد اليهود والنصارى والمساجد التي يذكر فيها اسم الله كثيراً.
ولو تكاسل المؤمنون وغضّوا الطرف عن فساد الطواغيت والمستكبرين ومنحوهم الطاعة، لما أبقى هؤلاء أثراً لمراكز عبادة الله، لأنّهم سيجدون الساحة خالية من العوائق، فيعملون على تخريب المعابد، لأنّها تبثّ الوعي في الناس، وتعبّىء طاقتهم في مجابهة الظلم والكفر.
وكلّ دعوة لعبادة الله وتوحيده مضادّة للجبابرة الذين يريدون أن يعبدهم الناس تشبّهاً منهم بالله تعالى، لهذا يهدّمون أماكن توحيد الله وعبادته، وهذا من أهداف تشريع الجهاد والإذن بمقاتلة الأعداء.
وقد أورد المفسّرون معاني متفاوتة ل- "الصوامع" و "البيع" و "الصلوات" و "المساجد" والفرق بينها، وما يبدو صحيحاً منها هو أنّ:
"الصوامع" جمع "صومعة" وهي عادةً مكان خارج المدينة بعيد عن أعين الناس مخصّص لمن ترك الدنيا من الزهّاد والعبّاد.
(ويجب ملاحظة أنّ "الصومعة" في الأصل تعني البناء المربّع المسقوف، ويبدو أنّها تطلق على المآذن المربّعة القواعد المخصّصة للرهبان.
و "البِيع" جمع بيعة بمعنى معبد النصارى، ويطلق عليها كنيسة أيضاً.
و "الصلوات" جمع صلاة، بمعنى معبد اليهود، ويرى البعض أنّها معرّبة لكلمة "صلوتا" العبرية، التي تعني المكان المخصّص بالصلاة.
وأمّا "المساجد" فجمع مسجد، وهو موضع عبادة المسلمين.
والصوامع والبيع رغم أنّها تخصّ النصارى، إلاّ أنّ إحداهما معبد عامّ والاُخرى لمن ترك الدنيا، ويرى البعض أنّ "البيع" لفظ مشترك يطلق على معابد اليهود والمسيحيين.
وعبارة (يذكر فيها اسم الله كثيراً) وصف خاص بمساجد المسلمين حسب الظاهر، لأنّها أكثر إزدحاماً من جميع مراكز العبادة الاُخرى في العالم، حيث تجرى فيها الصلوات الخمس في أيّام السنة كلّها، في وقت نجد فيه المعابد الاُخرى لا تفتح أبوابها للمصلّين إلاّ في يوم واحد من الاسبوع، أو أيّام معدودات في السنة.
وفي الختام أكّدت هذه الآية ثانية وعد الله بالنصر (ولينصرنّ الله من ينصره)ولا شكّ في إنجاز هذا الوعد، لأنّه من ربّ العزّة القائل: (إنّ الله لقوي عزيز).
من أجل ألاّ يتصوّر المدافعون عن خطّ التوحيد أنّهم وحيدون في ساحة قتال الحقّ للباطل، ومواجهة جموع كثيرة من الأعداء الأقوياء.
وبنور من هذا الوعد الإلهي إنتصر المدافعون عن سبيل الله على أعدائهم في معارك ضارية خاضوها بضآلة عدد وعدّة، ذلك النصر الذي لا يمكن أن يقع إلاّ بإمداد إلهي.
﴿الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِن دِيَارِهِمْ﴾ مكة ﴿بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَن يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ﴾ أي بغير موجب سوى التوحيد الموجب للإقرار لا الإخراج، قال الباقر (عليه السلام) نزلت في المهاجرين وجرت في آل محمد أخرجوا أو أخيفوا ﴿وَلَوْلَا دَفْعُ﴾ وقرىء دفاع ﴿اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ﴾ بنصر المسلمين على الكفار ﴿لَّهُدِّمَتْ﴾ بالتشديد والتخفيف ﴿صَوَامِعُ﴾ للرهبان ﴿وَبِيَعٌ﴾ كنائس للنصارى ﴿وَصَلَوَاتٌ﴾ كنائس لليهود سميت بها لأنه يصلي فيها ﴿وَمَسَاجِدُ﴾ للمسلمين ﴿يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا﴾ صفة للأربع أو للمساجد خصت بها تشريفا وقيل الكل أسماء للمساجد ﴿وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ﴾ بنصر دينه وقد أنجز وعده ﴿إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ﴾ على النصر ﴿عَزِيزٌ﴾ لا يغالب.