وأشارت الآية الثامنة - موضع البحث - إلى الصفتين الخامسة والسادسة من صفات المؤمنين البارزة، حيث تقول: (والذين هم لأماناتهم وعهدهم راعون) إنّ المحافظة على "الأمانة" بالمعنى الواسع للكلمة، وكذلك الإلتزام بالعهد والميثاق بين يدي الخالق والخلق من صفات المؤمنين البارزة.
وتعني الأمانة بمفهومها الواسع أمانة الله ورسوله إضافة إلى أمانات الناس، وكذلك ما أنعم الله على خلقه.
وتضمّ أيضاً أمانة الله الدين الحقّ والكتب السماوية وتعاليم الأنبياء القدماء، وكذلك الأموال والأبناء والمناصب جميعها أمانات الله سبحانه وتعالى بيد البشر، يسعى المؤمنون في المحافظة عليها وأداء حقّها.
ويحرسونها ما داموا أحياءاً.
ويرثها أبناؤهم الذين تربّوا على أداء الأمانات والحفاظ عليها.
والدليل على عموميّة مفهوم الأمانة هنا، إضافة إلى سعة المفهوم اللغوي لهذه الكلمة، هو أحاديث عديدة وردت في تفسير الأمانة بأنّها (أمانة الأئمّة المعصومين) أي: ينقلها كلّ إمام إلى وارثه(6).
وأحياناً تفسير الأمانة بأنّها الولاية بشكل عامّ.
وممّا يلفت النظر رواية زرارة أحد تلاميذ الإمام الباقر (ع) والإمام الصادق (ع) عن قوله تعالى (أن تؤدّوا الأمانات إلى أهلها)(7) "أدّوا الولاية إلى أهلها .."(8).
وهكذا يكشف عن أنّ الحكومة وديعة إلهيّة مهمّة جدّاً يجب إيداعها بيد من هو أهلها.
وهناك تعابير قرآنية عديدة تدلّ على عمومية وشمولية العهد، منها: (وأوفوا بعهد الله إذا عاهدتم)(9).
والجدير بالملاحظة أنّ بعض آيات القرآن عبّرت عن ذلك العهد بأداء الأمانة وعدم خيانتها والمحافظة عليها، و "رعاية الأمانة" التي استعملت في الآية السابقة تضمّ معنى الأداء والمحافظة.
فعلى هذا فانّ التقصير في المحافظة على الأمانة والذي يؤدّي إلى وقوع ضرر أو تعرّضها للخطر، يوجب على الأمين إصلاحها (وبهذا تترتّب ثلاثة واجبات على الأمين: الأداء، والمحافظة، والإصلاح) فلابدّ أن يكون الإلتزام بما تعهّد به المرء والمحافظة عليه.
وأداء الأمانة من أهمّ القواعد في النظام الإجتماعي، ودون ذلك يسود التخبّط في المجتمع.
ولهذا السبب نرى شعوباً لا تتمسّك عامّتها بالدين، إلاّ أنّها - سعياً منها لمنع الإضطراب - تفرض على نفسها رعاية العهد والأمانة، وتعتبر نفسها مسؤولة أمام هذين المبدأين - في أقلّ تقدير - في القضايا الإجتماعية العامّة (وقد بيّنا بإسهاب أهميّة الأمانة في تفسير الآية (58) من سورة النساء.
وفي تفسير الآية (27) من سورة الأنفال، وشرحنا الوفاء بالعهد في تفسير الآية الأُولى من سورة المائدة وفي تفسير الآية (91) من سورة النحل).
﴿وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ﴾ لما ائتمنوا عليه وعاهدوا من جهة الله أو الناس ﴿رَاعُونَ﴾ حافظون.