التّفسير
السير في الأرض والعبرة:
تحدّثت الآيات السابقة عن الأقوام الظالمة التي عاقبها الله على ما إقترفت أيديهم فدمّر أحياءهم، وأكّدت الآية الأُولى هذه القضيّة فقالت: (أفلم يسيروا في الأرض فتكون لهم قلوب يعقلون بها أو آذان يسمعون بها).
أجل، تحدّثنا عن خرائب قصور الظلمة، ومنازل الجبابرة المهدّمة، وعبدة الدنيا، فلكلّ واحد منها ألف لسان يحكي لنا بسكونه المسيطر عليه ما حدث في زواياه من ظلم وفسق وجور، ويحدّثنا عن ألف حادثة وحادثة.
إنّ هذه الخرائب كتب ناطقة تتحدّث عن ماضي هؤلاء الأقوام، ونتائج أعمالهم وسلوكهم في الحياة، وعن أعمالهم المشؤومة، وأخيراً عن العقاب الذي صبّه الله عليهم!
إنّ آثار قصور الجبابرة تبعث في روح الإنسان التفكّر والإتّعاظ، حيث يعوّضنا أحياناً عن مطالعة كتاب ضخم، ومع أنّ أصل التاريخ يعيد نفسه، فانّ هذه الآثار تجسّد للإنسان مستقبله أمام عينيه.
أجل، إنّ دراسة آثار القدماء تجعل آذاننا صاغية وأنظارنا ثاقبة.
ولهذا السبب يحثّ القرآن المجيد - في كثير من آياته - المؤمنين على السياحة، سياحةً إلهيّةً أخلاقيةً فيها عبرة لأنفسنا وعظة نحصّلها من دراسة إيوان المدائن وقصور الفراعنة.
فمرّة نمرّ عبر دجلة إلى المدائن، وقد نسكب الدمع بغزارة دجلة على أرض المدائن، لنسمع نصائح جديدة من شقوق خرائب القصور التي كان عمّارُها الملوك الجبابرة، ولنأخذ منها الدروس والعبر(1).
ولإيضاح حقيقة هذا الكلام بشكل أفضل قال القرآن المجيد: (فإنّها لا تعمي الأبصار ولكن تعمي القلوب التي في الصدور).
إنّ الذين يفقدون بصرهم لا يفقدون بصيرتهم، بل تراهم أحياناً أكثر وعياً من الآخرين.
أمّا العمي فهم الذين تعمى قلوبهم، فلا يدركون الحقيقة أبداً! لهذا يقول الرّسول الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم): "شرّ العمى، عمى القلب! وأعمى العمى عمى القلب"(2).
ونطالح حديثاً للرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم) في كتاب غوالي اللآلي "إذا أراد الله بعبد خيراً فتح عين قلبه فيشاهد بها ما كان غائباً عنه"(3).
وهنا يثار سؤال: كيف يقال أنّ القلوب التي في الصدور تدرك الحقائق، في وقت نعلم فيه أنّ القلب مضخّة للدم ليس إلاّ؟!
وقد أجبنا عن هذا في تفسير الآية السابقة من سورة البقرة، وخلاصته أنّ أحد معاني القلب هو العقل، ومن معاني الصدر ذات الإنسان.
إضافةً إلى أنّ القلب مظهر العواطف، وكلّما تأثّرت العواطف والإدراكات الروحيّة في الإنسان، فإنّ أوّل أثرها ينعكس على القلب فتزداد نبضاته ويسرع الدم في جريانه، ويمنح الجسم نشاطاً وحيوية جديدة، فتنسب الظواهر الروحية إلى القلب، لأنّه أوّل من يتأثّر بها في جسم الإنسان.
(فتأمّلوا جيداً).
وممّا يلفت النظر أنّ الآية المذكورة أعلاه نسبت سبل إدراك الإنسان إلى القلب (العقل) والاُذنين، إشارةً إلى أنّه لا سبيل ثالث لإدراك الأشياء والحقائق.
فإمّا أن يتفاعل مع الحدث في أعماق روحه ويسعى لتحليل المسائل بنفسه فيصل إلى النتيجة المتوخّاة، وإمّا أن يسمع النصيحة من المشفقين الهداة وأنبياء الله وأهل الحقّ، أو يصل إلى الحقائق عن طريق هذين السبيلين(4).
﴿أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ﴾ ليعرفوا حال المكذبين قبلهم فيعتبروا ﴿فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا﴾ ما أصاب أولئك بتكذيبهم ﴿أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا﴾ أخبار إهلاكهم سماع تدبر ﴿فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ﴾ الهاء للقصة أو مبهم يفسره الأبصار وفاعل تعمى ضميره ﴿وَلَكِن تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ﴾ قيد بالصدور تأكيدا ورفعا للتجوز.