وترسم الآية الآتية صورة معبّرة لما كان عليه الوثنيون، وما يعبدونه من أشياء ضعيفة هزيلة تكشف عن بطلان آراء المشركين وعقيدتهم، مخاطبةً للناس جميعاً خطاباً هادياً أن (ياأيّها الناس ضرب مثل فاستمعوا له) وتدبّروا فيه جيداً (إنّ الذين تدعون من دون الله لن يخلقوا ذباباً ولو اجتمعوا له).
أجل، لو إجتمعت الأوثان كلّها، وحتّى العلماء والمفكّرين والمخترعين جميعاً، لما استطاعوا خلق ذبابة.
فكيف تجعلون أوثانكم شركاء لخالق السموات والأرض وما فيهنّ من آلاف مؤلّفة من أنواع المخلوقات في البرّ والبحر، في الصحاري والغابات، وفي أعماق الأرض؟ الله الذي خلق الحياة في أشكال مختلفة وصور بديعة ومتنوّعة بحيث أنّ كلّ مخلوق من المخلوقات يثير في الإنسان كلّ الإعجاب والتقدير، فأين هذه الآلهة الضعيفة من اللّه الخالق القادر الحكيم المتعال؟
وتستكمل الآية البيان عن ضعف الأوثان وعجزها المطلق وأنّها ليست غير قادرة على خلق ذبابة فحسب، بل (وإن يسلبهم الذباب شيئاً لا يستنقذوه منه)كأنّ الآية تهتف فيهم: ما الدافع لجعل موجود ضعيف تهزمه الذبابة حاكماً عليكم وحلاّلا لمشاكلكم؟!
ويعلو صدى الحقّ في تقرير ضعف الوثن وعبدته في قوله تعالى: (ضعف الطالب والمطلوب).
وقد ورد في الرّوايات أنّ الوثنيين من قريش نصبوا أوثانهم حول الكعبة، وأغرقوها بالمسك والعنبر وأحياناً بالزعفران والعسل، وطافوا حولها وهم يردّدون (لبّيك اللهمّ لبّيك، لبّيك لا شريك لك، إلاّ شريك هو لك تملكه وما ملك)!
والإنحياز عن التوحيد واضح في هذه التلبية، والشرك مؤكّد فيها، فقد جعلوا هذه الموجودات التافهة شركاء لله الواحد الأحد، وهم يرون الذباب يحوم عليها ويسرق منها العسل والزعفران والمسك دون أن تستطيع إعادة ما سلب منها!
وقد عرض القرآن المجيد هذه الصورة ليكشف عن ضعف هذه الأوثان، وتفاهة منطق المشركين في تسويغ عبادتهم لهذه الأوثان، وذكّرهم بعجز آلهتهم عن إستعادة ما سرقه الذباب منها وعدم قدرتها على الدفاع عن نفسها لعلّهم ينتبهون على تفاهة ما يعبدون من دون الله تعالى.
أمّا ما المراد من "الطالب" و "المطلوب"؟
الصحيح هو ما سبق أن قلناه من أنّ الطالب هو عبدة الأوثان، والمطلوب هو الأوثان ذاتها، وكلاهما لا يقدر على شيء.
وقال البعض: إنّ الطالب هو الذباب، والمطلوب الأصنام (لأنّ الذباب يجتمع عليها ليسلب منها غذاءه).
وقال الآخرون: الطالب هو الأصنام، والمطلوب هو الذباب (لأنّه لو فكّرت الأصنام في خلق ذبابة واحدة لما إستطاعت ذلك) وأصحّ هذه التفاسير هو الأوّل.
﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ﴾ وتدبروه وهو ﴿إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ﴾ يعبدونهم غيره وهم الأصنام ﴿لَن يَخْلُقُوا ذُبَابًا﴾ مع حقارته ﴿وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ﴾ لخلقه ﴿وَإِن يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئًا﴾ مما عليهم من طيب وزعفران إذ كانوا يطلونهم به فيأتي الذباب فيأكله ﴿لَّا يَسْتَنقِذُوهُ مِنْهُ﴾ لعجزهم فالعاجز عن ذلك كيف يشارك الخالق القادر على كل شيء ﴿ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ﴾ العابد والمعبود أو الذباب والصنم أو عكسه.