وأمّا الآية الأخيرة - من الآيات محل البحث - فهي بمثابة إكمال البيانات السابقة في صدد عظمة محتوى القرآن، ومقدمة لقصص الأنبياء التي تبدأ بعدها مباشرة فتقول: (وإنّك لتلقّى القرآن من لدن حكيم عليم) (2).
وبالرغم من أنّ الحكيم والعليم كلاهما إشارة إلى علم الله سبحانه، إلاّ أن الحكمة تبيّن الجوانب العملية، والعلم يبيّن الجوانب النظرية... وبتعبير آخر: إن العليم يخبر عن علم الله الواسع، والحكيم يدل على الهدف من إيجاد هذا العالم وإنزال القرآن على قلب النّبي ((محمّد ص)).
ومثل هذا القرآن النازل من قبل الله ينبغي أن يكن مبيناً... وهدى وبشرى للمؤمنين، وأن تكون قصصه خالية من أي نوع من أنواع الخرافات والتضليل والأباطيل والتحريف.
الواقعية والإيمان:
المسألة المهمة في حياة الإنسان هي أن يدرك الواقعيّات بما هي عليه، وأن يكون موقفه منها صريحاً... فلا تمنعه من فهمها وإدراكها تصوراته وأحكامه المسبقة ورغباته الإنحرافية وحبّه وبغضه، ولذلك فأنّ أهم تعريف للفلسفة هو: إدراك الحقائق كما هي!.
ولذلك فقد كان من دعاء المعصومين: (اللّهم أرنى الأشياء كما هي) أي لأعرف قيمها وأؤدي حقّها.
وهذه الحالة لا تتحقق بغير الإيمان! لأنّ الهوى والهوس والإنحرافات أو الرغبات النفسية، تكون حجاباً وسداً كبيراً في هذا الطريق، ولا يمكن رفع هذا الحجاب أو السد إلاّ بالتقوى وضبط هوى النفس!.
لذلك فقد قرأنا في الآيات آنفة الذكر: (إنّ الّذين لا يؤمنون بالآخرة زينا لهم أعمالهم فهم يعمهون).
والمثل الواضح والجلي لهذا المعنى نراه في حياة كثير من عبدة الدنيا في زماننا بشكل بيّن.
فهم يفتخرون ببعض المسائل ويرونها حضارة، إلاّ أنّها في الواقع ليست إلاّ الفضيحة والعار والذل.
فالتفسخ والحماقة عندهم دليل "الحرية".
والتعري والسفور من قبل النساء دليل "التمدن".
التكالب على بهارج الدنيا وزخارفها دليل على "الشخصيّة".
الغرق في الوان الفساد دليل "التحرر".
القتل والإجرام دليل على "القوّة".
التخريب وغصب رؤوس الأموال دليل على الاستعمار، أي البناء والعمران(3)!!
استخدام اجهزة الاعلام العامة كالراديو والتلفزيون لتوكيد المفاهيم!!
سحق حقوق المحرومين دليل على احترام حقوق البشر.
الأسر في قبضة المخدرات والفضائح وما إلى ذلك من أشكال الحرية!.
والتزوير والغش واقتناء الأموال من أي طريق كان وكيف كان، دليل على الجدارة والذكاء.
رعاية أصول العدل واحترام حقوق الآخرين دليل على الضعف وعدم اللياقة!.
الكذب والدجل ونقض العهود وما إلى ذلك دليل على السياسة.
والخلاصة: إنّ الأعمال السيئة والقبيحة تتزين في نظر هؤلاء إلى درجة أنّهم لا يشعرون في أنفسهم بالخجل منها.
بل ويفتخرون ويتباهون بها!!
وواضح إلى اين يتجه مثل هذا العالم وماذا سيكون مصيره!!
﴿وَإِنَّكَ لَتُلَقَّى الْقُرْآنَ﴾ تلقنه ﴿مِن لَّدُنْ حَكِيمٍ عَلِيمٍ﴾.