لا يوجد اتصال بالانترنت !
ستتم اعادة المحاولة بعد 10 ثواني ...
جاري التحميل ...
التّفسير الآيات الحاضرة تكملة للأبحاث المرتبطة باليتامى، التي مرّت في الآيات السّابقة. يقول الله سبحانه: (ولا تؤتوا السّفهاء أموالكم) بل انتظروا رشدهم، ونضجهم في المسائل الإِقتصادية لكي لا تتعرض أموالكم للتلف والفناء. من هو السّفيه؟: قال الرّاغب في المفردات: "السّفه خفّة في البدن (يحصل بسببها عدم التعادل في المشي) ومنه قيل زمام سفيه أي كثير الإِضطراب، واستعمل في خفّة النفس لنقصان العقل في الأُمور الدّنيوية، والأخروية". ولكنّ من الواضح أنّ المراد من السّفه في الآية الحاضرة هو عدم الرشد اللازم في الأُمور الإِقتصادية بحيث لا يستطيع الشخص من تدبير شؤونه الإِقتصادية وإِصلاح ماله على الوجه الصحيح، ولا يتمكن من ضمان منافعه في المبادلات والمعاملات المالية، أي أنّه عرضة للغبن والضرّر، ويدل على هذا المعنى ما جاء في الآية الثانية إذ يقول سبحانه: (فإِن آنستم منهم رشداً فادفعوا إليهم أموالهم). وعلى هذا الأساس فإِنّ الآية الحاضرة وإِن كانت تبحث حول اليتامى، لكنّها تتضمّن حكماً كلياً وقانوناً عامّاً لجميع الموارد، وهو أنّه لا يجوز لأحد مطلقاً أن يعطي أموال من يتولى أمره، أو ترتبط به حياته بنوع من الإِرتباط، إِليه إِذا كان سفيهاً غير رشيد، ولا فرق في هذا الحكم بين الأموال الخاصّة والأموال العامّة (وهي أموال الحكومة الإِسلامية) ويشهد على هذا الموضوع - مضافاً إِلى سعة مفهوم الآية - وخاصّة كلمة "السّفيه" روايات منقولة عن أئمّة الدين في هذا الصدد. ففي رواية عن الإِمام الصّادق(عليه السلام) نقرأ أنّ شخصاً يدعى إِبراهيم بن عبد الحميد يقول: سألت أبا عبدالله عن قول الله: (ولا تؤتوا السفهاء أموالكم) قال: "كلّ من يشرب المسكر فهو سفيه(1) فلا تعطوهم أموالكم". وفي رواية أُخرى نجد النهي عن اختيار شارب الخمر لجعله أميناً على الأموال. وخلاصة القول أنّنا نجد توصيف شارب الخمر بالسفه في أحاديث كثيرة وموارد متعددة، وهذا التعبير إِنّما هو لأن شارب الخمر فقد رأس ماله المادي ورأس ماله المعنوي، وأي سفيه أشدّ من أن يعطي الإِنسان ماله، وعقله أيضاً، ويبتاع الجنون... ويضحي في هذا السبيل بكل طاقاته البدنية والروحية، ويتسبب في أضرار إِجتماعية كثيرة وكبيرة. ثمّ أنّنا نلاحظ أن رواية أُخرى تصف كلّ من لا يوثق به بالسفيه، وتنهي من تسليم الأموال الخاصّة والعامّة إِليه، فعن يونس بن يعقوب قال: سألت أبا عبدالله(عليه السلام) عن قوله: (ولا تؤتوا السّفهاء أموالكم)قال: "من لا تثق به(2)". ومن هذه الرّوايات يتبيّن أنّ للفظة السفيه معنى واسعاً، وأن النهي يشمل تسليم الأموال الخاصّة والعامّة إِليهم، غاية ما في الأمر أن هذا النهي يكون في بعض الموارد نهي تحريم، وفي بعض الموارد الاُخرى التي لا تشتد فيها درجة السفه يكون نهي كراهة. وهنا ينطرح سؤال وهو، إِذا كانت هذه الآية في مورد أموال اليتامى فلماذا قال تعالى: (أموالكم) ولم يقل "أموالهم"؟ يمكن أن تكون النكتة والسرّ في هذا التعبير هو بيان مسألة إِجتماعية وإِقتصادية مهمّة في المقام وهي أن الإِسلام يعتبر الأفراد في المجتمع بمثابة فرد واحد بحيث لا يمكن أن تنفصل مصالح فرد عن مصالح الآخرين، وهكذا تكون خسارة فرد عين خسارة الآخرين، ولهذا السبب أتى القرآن في هذا المقام بضمير المخاطب بدل ضمير الغائب إِذ قال: "أموالكم" ولم يقل "أموالهم"، يعني أنّ هذه الأموال - في الحقيقة - ليست مرتبطة باليتامى فقط، بل هي مرتبطة بكم أيضاً، فإِذا لحق بها ضرّر، يكون ذلك الضرّر قد لحق بكم بصورة غير مباشرة أيضاً، ولهذا يجب أن تحرصوا في حفظها كل الحرص. ثمّ إِنّ هناك تفسيراً آخر لهذا التعبير وهو أن المقصود من "أموالكم"، هو أموال نفس الأولياء لا أموال اليتامى، فيكون المعنى إِذا أردتم مساعدة الإيتام الذين لم يرشدوا ربّما أعطيتهم شيئاً من أموالكم - تحت تأثير العاطفة والإِشفاق ـ إِليهم، واخترتموهم لبعض الأعمال التي لا يقدرون عليها فلا تفعلوا ذلك، بل عليكم أن تعملوا شيئاً آخر مكان هذا العمل الغير العقلائي، وهو أن تقوموا بالإِنفاق على مأكلهم وملبسهم ومسكنهم حتى يبلغوا سن الرشد، فإِذا بلغوا هذه المرتبة، وحصلت لديهم البصيرة الكافية أعطوهم ماشئتم، وانتخبوهم لما تريدون من الأعمال. وهذا في الواقع درس إِجتماعي كبير يُعلمه القرآن لنا حيث ينهانا عن تشغيل من لا يقدر على بعض الأعمال فيها، وذلك بدافع مساعدتهم وتحت تأثير الإِشفاق والعاطفة، لأن هذه الأعمال وإِن كانت تنطوي على بعض الأرباح القليلة، ولكنّها من الممكن أن تجرّ على المجتمع أضراراً وويلات كبيرة، فلابدّ إِذن من إِدارة أُمور هذه الطائفة من المجتمع عن طريق تقديم المساعدات الغير المعوضة إِليهم أو تشغيلهم في أُمور سهلة وصغيرة. من هنا يتّضح أنّ بعض قاصري النظر يختارون الضعفاء والقصر لبعض المسؤوليات التبليغية والدينية إرفاقاً بهم وإِشفاقاً عليهم وهذا لا شك من أضرّ الأعمال، وأكثرها بعداً عن العقل والمنطق الصحيح. أموالكم قوام لكم: ثمّ أنّ القرآن الكريم يصف الأموال المذكورة في مطلع الآية الحاضرة بقوله: (التي جعل الله لكم قياماً) هو تعبير جميل ورائع جداً عن الأموال والثّروات، فهي قوام الحياة الناس والمجتمع، وبدونها لا يمكن للمجتمع الوقوف على قدميه، فلا يصحّ إِعطاؤها إِلى السفهاء والمسرفين الذين لا يعرفون إِصلاحها، بل ربّما أفسدوها وأتلفوها وألحقوا بسبب ذلك أضراراً كبيرة بالمجتمع. ومن هذا التعبير نعرف جيداً ما يوليه الإِسلام من الإِهتمام بالأُمور والشؤون الإِقتصادية والمالية، وعلى العكس نقرأ في الإِنجيل الحاضر: "فقال يسوع لتلاميذه: الحق أقول لكم أنّه يعسر أن يدخل غني إِلى ملكوت السماوات"(3) في حين يرى الإِسلام أنّ الأُمّة الفقيرة لا تستطيع أبداً الوقوف على قدميها. وأنّه لعجيب أن نرى تلك الطائفة بلغت إِلى ما بلغت من المراتب في عالمنا الراهن في حقول التقدم الإِقتصادي مع ما هم عليه من التعاليم الخاطئة، في حين نعاني من هذا الوضع المأسوي مع ما نملك من التعاليم الحيوية العظيمة. غير أنّه لا داعي للعجب، فهم تركوا تلك الخرافات والأضاليل في الحقيقة فوصلوا إِلى ما وصلوا، بينما تركنا نحن هذه التعاليم الراقية فوقعنا في هذه الحيرة، والتخلف. تعليمان في شأن اليتامى: ثمّ أن الله سبحانه يأمر - في شأن اليتامى - بأمرين مهمين هما: أوّلا: رزق اليتامى وإكسائهم من أموالهم حتى يبلغوا سن الرشد إِذ يقول: (يوارزقوهم فيها واكسوهم وقولوا لهم قو معروفاً). والجدير بالنظر هو أنّ الله تعالى عبّر في هذه الآية بلفظة "فيها" أي في أموال اليتامى لا "منها" أي من أموالهم إِذ المفهوم من هذا التعبير هو أن تدبير شؤون اليتامى والإِنفاق عليهم يجب أن يتمّ من أرباح أموالهم، إِذ لو قال سبحانه: وارزقوهم منها لفهم من ذلك أنّ على الولي أن يقتطع من أصل أموالهم شيئاً فشيئاً، وهذا يعنى أن يفقد اليتامى شيئاً كبيراً من أموالهم حينما يبلغون ويصلون إِلى سن الرشد، ولكن القرآن الكريم باستبداله لفظة "منها" بلفظة "فيها" يكون قد أوصى أولياء اليتامى بأن يحرصوا كلّ الحرص على أموال اليتامى، ويحاولوا الإِنفاق من أرباح رؤوس أموالهم وذلك باسترباح هذه الأموال واستثمارها ولو بقدر نفقات اليتامى كيما تبقى هذه الأموال على حالها حين بلوغهم سن الرشد. ثانياً: مخاطبة اليتامى والتكلم معهم بقول طيب ورقيق إِذ قال سبحانه: (يوقولوا لهم قو معروفاً) كيما يزيلوا بمثل هذا القول المعروف ما يشعر به اليتامى من نقصان روحي وعُقد نفسية، كما يساعدوا بذلك على ترشيدهم وبلوغهم حدّ الرشد العقلي، حتى يتمتعوا عند البلوغ بالرشد العقلي اللازم، وبهذا الطريق يكون بناء شخصية اليتيم وترشيده عقلياً من وظائف الأولياء ومسؤولياتهم أيضاً. ﴿وَلاَ تُؤْتُواْ السُّفَهَاء﴾ النساء والصبيان ومن لا تثق به ﴿أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللّهُ لَكُمْ قِيَاماً﴾ تقومون بها ﴿وَارْزُقُوهُمْ﴾ واجعلوا لهم ﴿فِيهَا﴾ رزقا ﴿وَاكْسُوهُمْ وَقُولُواْ لَهُمْ قَوْلاً مَّعْرُوفًا﴾ حسنا شرعا أو عقلا من وعد جميل.