ولمّا رأت الملكة رغبتهم في الحرب خلافاً لميلها الباطني، ومن أجل إطفاء هذا الظمأ وأن تكون هذه القضية مدروسة، لذلك (قالت إن الملوك إذا دخلواقرية أفسدوها وجعلو أعزة أهلها أذلةً).
فيقتلون جماعةً منهم ويأسرون آخرين ويطردون طائفة ثالثة ويخرجونهم من ديارهم ويخربون حيّهم و ينهبون ثرواتهم وأموالهم.. ولمزيد التأكيد أردفت قائلةً: (وكذلك يفعلون).
وفي الحقيقة.. إن ملكة سبأ التي كانت بنفسها ملكةً، كانت تعرف نفسية الملوك بصورة جيدة، وأن سيرتهم تتلخص في شيئين:
1 - الإفساد والتخريب.
2 - وإذلال الأعزة...
لأنّهم يفكرون في مصالحهم الشخصية، ولا يكترثون بمصالح الأُمّة وعزتها... وهما على طرفي نقيض دائماً.
ثمّ أضافت الملكة قائلةً: علينا أن نختبر سليمان وأصحابه، لنعرف من هم وما يريدون؟ وهل سليمان نبيّ حقاً أو ملك؟ وهل هو مصلح أو مفسد؟ وهل يذلّ الناس أم يحترمهم ويعزّهم؟
ج - ولو أن الملكة أذعنت لرأيهم في الحرب لكانت بعيدة عن الحقيقة والصواب، وسنرى أن إقدامها على إرسال الهدية كان مثمراً، وكانت نتيجة طيبة لها ولقومها، وكان سبباً لأن يهتدوا إلى طريق الحق والعدل، ويبتعدوا عن سفك
الدماء!
د - ويستفاد من هذه القضية ضمناً أن المناهج التشاورية لا تنتهي إلى الحق دائماً.. إذ كانت عقيدة الأكثرية هنا أن يلجأوا إلى القوّة والقتال في حين أن ملكة سبأ كانت ترى خلاف نظرتهم، وسنرى أن الحق كان معها في نهاية القصّة!
هـ - ويمكن أن يقال: إنّ هذا النوع من التشاور أو المشورة غير ما هو جار بيننا اليوم من التشاور.. فنحن نأخذ برأي الأكثرية على أنّه هو المعيار، ونعطيهم حق التصويت والتصويب.
في حين أن التشاور محل البحث هو مجرّد إبداء النظر من قبل الأكثرية، والرأي الحاسم لقائد تلك الجماعة.. ولعل الآية (وشاورهم في الأمر فإذا عزمت فتوكّل على الله) (10)تشير إلى هذا القسم الثّاني من التشاور.
أمّا الآية الكريمة (وأمرهم شورى بينهم) (11) فناظرة إلى القسم الأوّل(12).
و - قال أصحاب ملكة سبأ لها (نحن أولوا قوة وأولوا بأس شديد) ولعل هذا الإختلاف بين "القوة" و"البأس" في التعبير، هو أنّ "القوة" إشارة إلى الكمية العظيمة من الجيش... و"البأس الشديد" إشارة إلى كيفية العمل وروح الشجاعة والشهامة في الجيش، أي أن مرادهم أنّهم مستعدون للقتال من الناحية "الكمية" ومن حيث "الكيفية" لمواجهة العدو أيضاً.
4 - علامات الملوك
يستفاد من هذه الآيات - بصورة جيدة - أن الحكومة الإستبدادية والسلطنة في كل مكان مدعاة للفساد وإذلال الأعزة... لأنّ الملوك يبعدون عنهم الشخصيات الفذة، ويدنون المتملقين، ويبحثون في كل شيء عن مصالحهم ومنافعهم الذاتية، وهم أهل رشوة وذهب ومال، وبالطبع فإنّ الامراء والاعوان القادرين على هذه الاُمور أحبّ عندهم من غيرهم.
وبينما نرى تفكير الملوك ورغباتهم تتلخص في نيل الهدايا والجاه والمقام والذهب والمال... نجد أنّ الأنبياء لا يفكرون إلاّ بإصلاح أممهم!.
﴿قَالَتْ إِنَّ الْمُلُوكَ إِذَا دَخَلُوا قَرْيَةً﴾ عنوة وقهرا ﴿أَفْسَدُوهَا﴾ خربوها ﴿وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِهَا أَذِلَّةً﴾ أهانوهم بالقتل والأسر ونهب الأموال ﴿وَكَذَلِكَ يَفْعَلُونَ﴾ تقرير لما وصفتهم به أو تصديقا لها من الله تعالى.